Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. سيد فتحي احمد الخولي

هل سيتخلى خبراء الاقتصاد عن نظرياتهم بسبب الأوبئة وتغيرات المناخ؟!

A A
التاريخ الاقتصادي هو دراسة الاحداث والتطورات الاقتصادية في مختلف مناطق العالم، اما تاريخ الفكر الاقتصادي فيهتم بإسهامات المفكرين في تطوير الأفكار والنظريات الاقتصادية التي شكلت مدارس الفكر الاقتصادي. ولهذا يرتبط الفكر الاقتصادي بتطور الحضارات وتاريخ العصور القديمة والمعاصرة.

فقد ساهم الكتاب اليونانيون القدامى بالأفكار المتعلقة بفن اكتساب الثروة، وقيمة المال كوحدة، الا ان تراجع الإقطاع في القرن الخامس عشر وتزايد الاكتشافات الجغرافية أظهرت فرصًا جديدة للتجارة مما دفع التجاريين كحركة سياسية لحصر تعريف الثروة الاقتصادية فيما تجمعه الدولة نتيجة استغلال واستعمار الدول الأضعف لضمان حماية الأسواق المحلية ومصادر الإمداد. ثم تأثرت المدرسة الاقتصادية المعروفة "بالطبيعيين" بالتقدم الكبير الذي حققته علوم الطبيعة واعتقدوا أن المنافع الشخصية هي التي تحث الأفراد على الانتاج وأن الثروة الاقتصادية ليست في الذهب والفضة والمعادن النفيسة، بل الثروة في الانتاج مما أدى الى التراكم السريع لرؤوس الأموال وتزايد المنتجات الزراعية كما تزايدت أهمية الانتاج الصناعي.

وبجانب أفكار ابن خلدون الذي ربط دورة حياة الحضارات مع تخصص العمل، وقيمة المال كوسيلة للتبادل وليس كمخزن للقيمة المتأصلة، حفز استعادة النظام الملكي في بريطانيا ظهور عدد من التطورات الهامة في الفكر الاقتصادي، وخاصة ما يتعلق بحماية حقوق الملكية الخاصة. وجادل أبو الاقتصاد الحديث آدم سميث في كتابه «ثروة الأمم (1776)» بأن القيمة الحقيقية للأشياء تُستمدّ من كمية العمل المستثمر فيها، ودافع عن الحرية الاقتصادية التي ستحفز اليد الخفية ليقوم الفرد بالاهتمام بمصلحته الشخصية مما سيساهم أيضاً في ارتقاء مصلحة مجتمعه ككل. ثم قدم روبرت مالتوس مقاله التشاؤمي عن السكان يظهر فيه أن النمو السكاني يمكن أن يتزايد بشكل يفوق زيادة الموارد الطبيعية المتوفرة ويشكل عبئاً فلا تكفي الموارد حاجات السكان فتتفاقم ظاهرة الفقر والحرمان.

ونتيجة للخلافات السياسية حول سبل تحسين الأوضاع الاقتصادية في المراحل التي تلت الثورات في أمريكا وأوروبا ظهرت نظريات اقتصادية جديدة عن إن الناس يطلبون المال من اجل شراء ما ينتج رجال الاعمال «يخلق العرض طلبه الخاص»، وضرورة تقليص معوقات التجارة الدولية، والتفاؤل بأهمية دور الاختراعات والابتكارات في مواجهة الفجوة بين الموارد والاحتياجات.

وبعد الثورة الصناعية وما نجم عنها من تراكم كبير للثروات وارتفاع مستويات المعيشة في الاقتصادات الرأسمالية، تسارعت وتيرة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية في معظم دول العالم، ولهذا كتب ماركس كتاب «رأس المال» يتهم النظام الرأسمالي بأنه يقسم المجتمع الاقتصادي إلى قسمين، وهما الطبقة البرجوازية المالكة للأعمال، وطبقة البروليتاريا، وهي الطبقة العاملة والتي تقوم بعمليات الإنتاج بأقل الأجور والتكاليف، ولهذا أعتبر الرأسمالية نظام اقتصادي استغلالي وامتداد لنظام العبودية والاقطاع. ولكن بعد عقود قليلة واجهت روسيا خطر الإفلاس نتيجة انخفاض إجمالي الإنتاج الصناعي وارتفاع معدلات البطالة وارتفاع تكاليف المعيشة بشكل حاد مما أدى الى زيادة الاضطرابات في قطاعات الصناعة والنقل والتي قادت الى الثورة البلشفية وقيام الاتحاد السوفيتي بناءً على أفكار كارل ماركس وتطوير فلاديمير لينين.

وفي أكتوبر 1929م واجه العالم الكساد الكبير، مما أسهم في ظهور ورواج أفكار المدرسة الكينزية التي دعت إلى مواجهة الكساد العظيم من خلال إنفاق العجز الحكومي في أوقات الاستثمار أو الاستهلاك الخاص المنخفض، واقترح العديد من الأفكار الخاصة بالطلب الفعال، والمضاعف، وتحفيز العلاقة بين الادخار والاستثمار.

وشهدت الفترة بعد الحرب العالمية الثانية بعض ملامح الازدهار الاقتصادي، واستمر الانتعاش الاقتصادي في الخمسينيات والستينيات نتيجة مجموعة من الحركات والظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية كان أبرزها التضخم السكاني ( طفرة المواليد) وزيادة ملحوظة في النزعة الاستهلاكية، إنهاء الاستعمار، الاتجاه الى التصنيع لاستبدال الواردات، إتاحة فرص العمل ورفع الأجور وتوفير شبكات الأمان الاجتماعي، هجرة السكان إلى المناطق الحضرية والعمل بوظائف أعلى إنتاجية ودخلا وانتقال العمالة من القطاع الزراعي إلى القطاعات الاقتصادية الأخرى مما أدى بروز مدارس جديدة تؤمن بالحرية الاقتصادية وبكفاءة السوق دون تدخل الدولة في الاقتصاد.

الا ان الأوضاع الاقتصادية تراجعت في السبعينيات الميلادية بسبب تغييرات في العلاقات الدولية، بسبب انهيار نظام برايتون وودز النقدي واستخدام النفط كسلاح سياسي وانهيار سوق الأوراق المالية والركود الاقتصادي.

وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي وازدهار التجارة الدولية من الشرق الأقصى وتحسن أداء اقتصادات الصين والدول الصناعية في أوروبا وامريكا عادت ملامح الازدهار الاقتصادي، وزاد تأثير المدارس الاقتصادية الجديدة في أميركا.

ومن أبرزها مدرسة “المياه المالحة” التي تنحاز لأفكار المدرسة الكينزية التي تؤكد على أهمية الدور الحكومي في الاقتصاد لتنظيم الأسواق من خلال الضرائب، والإنفاق العام، لتحقيق الاستقرار الاقتصادي واستعادة كفاءة الأسواق (ومن منظروها بول كروغمان وجوزيف ستيجليتز الحائزان على جائزة نوبل في الاقتصاد). ومن جهة اخرى هناك أيضا ما يعرف بمدرسة “المياه العذبة” (ومن أبرز منظروها ميلتون فريدمان وروبرت لوكاس، وكلاهما حاصلان على جائزة نوبل في الاقتصاد أيضاً) والتي ترتبط مع الفكر الكلاسيكي الجديد الذي يعارض تدخل الحكومة لأن من شأنه التأثير سلباً على كفاءة السوق والدورات الاقتصادية.

ومع استمرار دور الاحداث السياسية وتغير المجتمعات في تشكيل الفكر الاقتصادي، فقد تكالبت التحديات وتعددت في اشكالها وحدة تأثيرها في البشر، فتعقدت التوقعات حول السلوك الاقتصادي للمجتمعات المعاصرة والذي تشكله الأنماط الاجتماعية التي تعتمد على المفاهيم والمعتقدات والأفكار والقيم الإنسانية التي تحدد تحيزاتهم وتفضيلاتهم ولهذا شهدت الالفية الحالية محاولات لإخضاع بعض النظريات الاقتصادية للتغيير بسبب استحالة توفر فروضها.

فعندما تتباين خيارات وسلوك البشر نتيجة تغير القواعد التي تشكل الترتيبات المؤسسية في تلك المجتمعات، فان النتائج ستغير واقع حياتهم، وبالتالي فأن تحيزاتهم وتفضيلاتهم المختلفة تدفعهم الى إعادة تشكيل أفكارهم وتغيير سلوكهم الجماعي من خلال تواصلهم. ولهذا أدرك الاقتصاديون ان الواقع الاقتصادي يعتمد على مدى تأثر الافراد بسلوك الاخرين من خلال شبكات تواصل تستهدف سلوكهم وقراراتهم. والتي غالبا ما تتشكل في بيئة يشوبها التحيزات والبيانات المغلوطة والمعلومات المشوهة وتباين مفاهيم العدالة.

فعلى الرغم من الصورة الإيجابية للأداء الاقتصادي الذي رافق ترتيب الدخول الى الالفية الجديدة، والتطورات السريعة والضخمة في التكنولوجيا الا ان الأفكار التشاؤمية حول مستقبل الأرض أصبحت أكثر انتشارا وقبولا، وتزايد الشعور بالعجز والمخاطر التي تبثها وسائل التواصل لبث الرعب الدافع الى تغيير التوقعات وبالتالي السلوك لتحقيق منافع ومزايا لأطراف مجهولة بالنسبة لهم.

ووفق ادبيات علم الاقتصاد يتمثل التغيير التكنولوجي في رفع كفاءة الإنتاج وزيادة المنتجات كما ونوعا دون زيادة مماثلة في التكاليف، ولهذا أثرت التغيرات التكنولوجية الجديدة على النشاط والسلوك الاقتصادي مما أدى الى تغير الهيكل الاقتصادي العالمي.

فقد أدى الاعتماد على مخرجات التطور المتسارع في مجالات التكنولوجيا الى تطور الآليات والأساليب التي تنظم بها الدول والشركات الإنتاج، والاستثمار كما ساهم تقدم تقنيات المعلومات والاتصالات في تحفيز نمو التجارة الدولية وتعاظم دور الشركات العالمية.

وزادت الآثار الاقتصادية والمكاسب الإيجابية للتقدم التكنولوجي ومساهمته في زيادة وسائل الراحة وابتكار طرق جديدة للقيام بالأنشطة البشرية، وظهور خدمات وصناعات جديدة وبالتالي خلق فرص عمل جديدة في مجالات الإنتاج والخدمات، وبالتالي زيادة الناتج المحلي الإجمالي.

كما أصبح الذكاء الاصطناعي جزءا من الحياة اليومية، مدفوعا بظهور أنظمة صوتية مؤثرة والإبصار الحاسوبي، والتسوق عبر الانترنت، والبرامج المرتبطة بالبيانات المتسلسلة، كما ساهمت الحوسبة الكمية في زيادة الابتكارات في مجالات الطاقة والرعاية الصحية الرقمية، بجانب الارتفاع الكبير في انتاج المحاصيل الزراعية.

ولكن التاريخ الاقتصادي أعاد شكوك الفترة التي زاد خلالها دور الآلات في الإنتاج على حساب عنصر العمل، وانتشار مشاعر القلق عند العمال والموظفين في مختلف المجالات من أن تسلب الآلة وظائفهم، واعتقاد البعض ان البطالة التي رافقت الكساد الكبير كانت بسبب تزايد الآلات. واليوم تعود الشكوك مرة اخرى حول دور الآلات والتقنيات والروبوتات في البطالة.

ومن جهة أخرى عادت الأفكار التشاؤمية للظهور بعد تعدد التهديدات البيئية والكوارث المناخية، الا ان الاجتهادات لتغيير بعض المفاهيم الأساسية في الاقتصاد حولت اهتمام الاقتصاديين عن الاقتصاد الخطي الى الاقتصاد الدائري بحيث يعاد استخدام الموارد ومخرجات الانتاج كمدخلات في عمليات الإنتاج مرة أخرى، وتغير مفهوم التنمية الاقتصادية الشاملة او المتوازنة الى التنمية المستدامة.

وأيضا خلال ازمة كورونا وتزايد الاهتمام بتعطل سلاسل الامداد، تخلى السياسيون عن منظور علماء الاقتصاد والمبادئ المثالية لاقتصاديات الرفاهية الخاصة بأولوية معالجة الإجراءات التي تضر بمصالح الاخرين، واعتمدوا على منظور علماء الأوبئة وتهميش نتائج تقييم المفاضلات عند حساب التكاليف والفوائد او المنافع. وبالتالي أبطل تحدى الوباء منظور الاقتصاد السياسي وافتراضات علم الاقتصاد بتوقع السلوك الرشيد لكل الأطراف بحيث يختاروا ما يحقق اقصى قدر من المنافع بأقل قدر من التكاليف، واتفق الجميع على أن تقليص المخاطر والتكاليف الى أدني حد هو نفسه ما يحقق اقصى المنافع المتاحة دون الحاجة للالتزام بشروط المقايضة المعروفة.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store