خلق الله تعالى عباده من الجن والإنس لعبادته سبحانه كما في قوله تعالى (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وحتى تتم تلك العبادة كما أراد الله تعالى فقد فرض عليهم صفتها ومطالبها ولضمان استمراريتها كان الله تعالى يرسل لكل أمة رسولا يبين لهم صفاتها ومطالبها، وهذه العبادة يمكن تقسيمها إلى قسمين أحدهما العبادة المؤقتة التي حدد لها أزمان وصفات ثابتة كالصلوات والحج والصيام والزكاة، وتهدف تلك العبادات إلى زرع القيم والسلوكات الفاضلة بين البشر أي أنها مستدامة عبر الأزمان لكن اللافت للإنتباه أن البعض يسارع لإقامة العبادات الحركية المؤقتة التي فرضها الله تعالى علينا وهذا أمر محمود عسى الله أن يتقبله منا ومنهم أجمعين لكن للأسف نجد الكثير منهم يجهلون أو يتجاهلون المتطلبات الجوهرية الروحية المستدامة التي فرضت من أجلها تلك العبادات وكأنهم بذلك اهتموا بالمؤقت ونسوا أو تجاهلوا المستدام الذي يغذي الروح وتصبح عبادتهم مجرد حركات شكلية تزيدهم بعداً عن الله تعالى.
فعلى سبيل المثال لا الحصر في مدارسنا وعلى منابرنا علمونا أن الصلوات هي خمس ومعها السنن الرواتب في اليوم وأن كل صلاة لها وقت محدد ولابد أن تكون في المساجد وحفظونا عن ظهر قلب اركانها وواجباتها وسننها لكنهم لم يعلمونا بوظيفتها التي فرضت من أجلها وهو التواصل الروحي مع الله بالذكر المستدام والبعد عن الفحشاء والمنكر والالتزام بكل ما أمر به الله والإبتعاد عما نهى عنه والالتزام بممارسة القيم والسلوكات الفاضلة كالخوف من الله والتبتل إليه والابتعاد عن الغيبة والنميمة والبهتان والسب والشتم والصدق في القول والوفاء بالوعد ونظافة الجوارح والسريرة معاً وتأدية العمل الموكل اليك بصدق وإخلاص وإعطاء كل ذي حق حقه والمحافظة على المال العام وعدم التعدي عليه وبر الوالدين وصلة الرحم وعدم الغش والمغالاة في التجارة.
وهكذا علمونا أن الصيام في شهر رمضان أو الأيام البيض وعاشوراء ويوم عرفة والاثنين والخميس لها نفس المتطلبات الروحية كتعزيز الصبر والصدقة والتكافل ايضا فاذا لم تتحقق تلك الروحانيات فلن ينال الصائم من صومه الا الجوع والعطش والخسران فالصيام لم يفرض فقط للامتناع عن الطعام والشراب ومعاشرة النساء بل هو لتحقيق تلك المتطلبات كترويض النفس وكبح شهواتها المحرمة والشعور بألم الفقير ومعاناته وتعلم الصبر على ظروف الدهر وتقديم العون للفقراء والمساكين والشعور بنعم الله التي لا تعد ولا تحصى وحمد الله عليها.
وهكذا الزكاة التي تؤخذ من أموال الأغنياء وتدفع للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمون وفي سبيل الله وابن السبيل.
فالأموال المقتطعة للزكاة ليست مجرد أموال تقتطع قسراً ليتحقق رضا الله تعالى لكن لها متطلبات موازية لدفعها كتطهير النفس من الكبر والتعالي وتطهير المال والشعور بألم وفاقة المحتاج وحث على التكافل والترابط الاجتماعي الذي أمر الله به المؤمنين وحمد الله وشكره على ذلك المال الذي رزقه الله تعالى للعبد.
وهكذا الحج ليس مجرد إقامة شعائر حركية كالطواف بالبيت العتيق والوقوف بعرفة ثم مزدلفة ثم منى بل له متطلبات روحية يجد فيها المؤمن فرصة تجلٍ روحاني لتطهير النفس من كل القيم والسلوكات غير الفاضلة ومحاسبتها على ما اقترفته من ذنوب والتعهد بعدم العودة برضى وقناعة ففي ذلك فرصة عظيمة عندما يجد نفسه في تلك الأماكن المقدسة لا فرق بينه وبين غيره في اللبس والمكان وليس كما يفعل البعض عندما يرمي الشيطان من على جسر الجمرات ثم تراه تحت الجسر يكذب وينافق ويسرق ويشتم وينصب ويغتاب ويبهت ويخلف الوعد فكيف به بعد أن يعود إلى ممارسة الحياة اليومية.
فهل سيعاد النظر في صياغة مناهج مدارسنا الشرعية؟ وهل سيعاد النظر في تراثنا الشرعي وهل سيعاد النظر في خطب منابرنا وهل سيعاد النظر في كافة معاملاتنا وسلوكاتنا؟
نتمنى ذلك.. والله من وراء القصد.