إن فكرة الأوقاف على التعليم قد نشأت في الأساس لتمكين المؤسسات التعليمية من الحفاظ على استقلاليتها، وعدم تعثر أنشطتها العلمية والبحثية، وكذلك عدم تأثر التمويل المالي التعليمي بموارد الدولة التي تتفاوت من وقتٍ لآخر. وفكرة الأوقاف على التعليم في التاريخ الإسلامي لم تبرز إلا في عهد الخليفة (المأمون)، وتطورت بعد ذلك مع إنشاء المدارس الوقفية في القرن الخامس الهجري.
لا يزال في الذاكرة، ما قاله رئيس لجنة تقدير العقارات الأسبق بمكة الشيخ عبدالله كعكي للوالد - رحمهم الله جميعاً-، من أن هناك الكثير من المراكز التعليمية في الخارج كانت تُموَّلُ من خلال أوقافٍ عقاريةٍ في مكة المكرمة والمدينة المنورة!!.
لا يختلف اثنان على أن جامعاتنا أولى بمثل هذا التمويل الذي أصبح اليوم ضرورة ملحة، في ظل تقلبات أسعار النفط، وازدياد نفقات التعليم، وحاجات المتعلمين.
يمثِّلُ هذا التمويل إضافةً مهمةً لأيِّ مجتمعٍ من المجتمعاتِ لأنَّهُ يقدِّم رافداً جديداً من روافد المجتمع المدنيِّ الحيِّ. ومزيَّتُهُ أنَّه يقدِّم الخدمةَ المجتمعيةَ اللازمةَ دون إرهاقٍ لميزانية الدولة أو الأفراد.
وفي بلادنا تجارب رائدة في هذا المجال، منها مؤسسة الملك فيصل -رحمه الله- الخيرية التي تتبنى جائزة الملك فيصل العالمية، ومركز البحوث والدراسات الإسلامية، وجامعة الفيصل، وجامعة عفت وغيرها من الأنشطة. إن هذه المؤسسة الخيرية الرائدة التي تتبنى كل هذه المناشط تُموِّل نفسها ذاتياً.
ومن التجارب العالمية، هناك الكثير من الجامعات التي تعتمد في ميزانيتها -خاصة في دول العالم الأول- على عدة مصادر، من بينها (عوائد وقفياتها)، إضافةً لأصولها الاستثمارية، وبيوت الخبرة لديها، وكذا الهبات المقدمة لها من الأفراد والجمعيات والمؤسسات الاجتماعية والشركات، والمساعدات الحكومية بصورة تعكس الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
ويجري إنفاق هذه الموارد عادة في دعم البرامج البحثية، وتمويل الكراسي العلمية، وتأهيل مرافق الجامعة من قاعات دراسية ومكتبات ومختبرات ومعامل وأجهزة حديثة وبنيتها التحتية ومنشآتها، كالمساحات الخضراء والأبنية وصيانتها.
وبالنظر للجامعات المتصدرة في تصنيف الجامعات العالمية، نجد أن أغلبها وقفية، تصدرتها الجامعات الأمريكية كهارفرد، ستانفورد، وديوك، والبريطانية ككامبريدج وأكسفورد، والكندية تورينتو، وجامعة سيدني الأسترالية، وغيرها من الجامعات الوقفية حول العالم.
كل هذه التجارب الوقفية، أثبتت جدارتها في تطوير التعليم العالي، وتحقيق جودة البحث العلمي ومخرجاته، وفي التصدير وفي الاقتصاد المعرفي، وإيجاد حلول علمية للعديد من المشكلات التي تواجه المجتمع.