عنوان المقال يرمز إلى السكوت ويقترن بالسرية.. ومن طرائف الكلمة أن لفظها يتطلب عضلات اسمها "أور بيك يو لارس أوروس" orbicularis oris، وهي المسؤولة عن تدوير الشفاه.. يعني لا مؤاخذة هي عضلات القبلات.. ولكن المقال يناقش حكايات مليئة بالدبابيس والجاسوسية، والسرية على أعلى المستويات.. سأبدأها بقصة مدفع.
خلال الحرب العالمية الأولى طورت ألمانيا مدفع "بيج برثا" أي "برثا الكبيرة".. كان عملاقاً بمعنى الكلمة، فوزن قذيفته كانت تعادل تقريبا وزن "التويوتا كورولا"، وكان مصمماً لضرب أهداف على مسافات تفوق المسافة من وسط جدة إلى عسفان بدقة، وأحد تحديات تشغيله كانت درجات الحرارة الهائلة بداخله بسبب الاحتكاك الذي كان يفوق درجة تحمل الحديد الصلب.. ولما كانت القدرات الكيميائية الألمانية هي الأفضل في العالم آنذاك، اكتشف علماؤهم أن عنصر "المولي بن ديوم" كان أحد أهم الحلول لتهذيب ذرات الحديد، لم يعلم أي من علماء العالم أهميته في ذلك الشأن، ولكنه كان من أقوى المعادن وأكثرها مقاومة للحرارة، إذ كانت درجة انصهاره البالغة 2623 درجة مئوية تفوق درجة انصهار الحديد، التي تصل إلى 1530 درجة مئوية، وكان خلطه بالحديد الصلب "يهذب" ذرات الحديد، فأصبح المدفع يتحمل حرارة الاحتكاك الرهيب، الشاهد أن ذلك المعدن لم يتوفر بكثرة إلا في الولايات المتحدة، وبالرغم من أنها لم تدخل الحرب رسمياً ضد ألمانيا إلى إبريل 1917، إلا أنها لم تؤيدها منذ بداية الصراع، كونت ألمانيا شركة تعدين أمريكية برأس مال خاص، وحصلت على كميات ضخمة من المعدن المهم لتحسين أداءها الحربي.. كله شغل هُس.
وننتقل إلى الحرب العالمية الثانية وبدايات تصنيع القنبلة النووية.. كانت إحدى المكونات الرئيسة هي عنصر اليورانيوم المشع.. ويتميز العنصر بأكبر الذرات، وهي مشحونة مثل الأشخاص الذين لا يطيقون أنفسهم.. وما أكثرهم.. ولذا فتجده يشع حتى لو تركته بدون أي استفزاز.. وبالرغم من وجود ذلك العنصر في تشيكوسلوفاكيا التي كانت محتلة من ألمانيا، إلا أن الغنيمة الكبرى كانت في وسط إفريقيا في منجم "شنكل لوب ويه" في الكونجو.. وكانت تلك المستعمرة تابعة، بل ومملوكة لدولة بلجيكا التي كانت أيضاً محتلة من ألمانيا، ولكن القوات الألمانية لم تصل إلى الكونجو.. يعني الشغل كان كومة لغوصة سياسية وجغرافية، ولكن المهم في الموضوع أن تلك المستعمرة الإفريقية أصبحت من أهم المسارح لشغل الدبابيس الذي يجعل قصص "جيمس بوند" تبدو وكأنها لعب بزورة.. هُس، وكذب، وخداع، وحيل، وتهريب، وسرقات، واغتيالات لضمان الهيمنة على كميات اليورانيوم اللازمة لتصنيع القنبلة.. وباقي القصة معروفة، ونهاية البداية كانت في مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان في 6 و9 أغسطس 1945.
وقصتنا الثالثة كانت عندما بدأت الولايات المتحدة بتصنيع أسرع طائرة في العالم.. كانت طراز "لوكهيد إس أر 71" الشهيرة باسم "الطير الأسود" خاصة بالتجسس، وكانت تُحلِّق على سرعة حوالى ثلاثة آلاف وخمسمئة كيلومتر في الساعة على ارتفاع يفوق الثمانين ألف قدم، ولم تنافسها أي طائرة في العالم، وتطلَّب أداؤها المتميز أن تصنع من معدن التيتانيوم الفريد، كان يتميز عن الحديد الصلب بوزنه، ويتميز عن الألمونيوم بقوته، ولكنه لم يتواجد بكميات كافية إلا في الاتحاد السوفيتي، وهنا بدأت عمليات سرية على أعلى درجات الهُس لاستيراد ذلك المعدن من الاتحاد السوفيتي لتصنيع الطائرة الحربية التي صممت للتجسس على الاتحاد السوفيتي.. شغل أغرب من الخيال.
* أمنيــــــــــة:
عالم الكيمياء يقترن بالحضارة بالعديد من الأوجه غير المتوقعة، ومنها عالم الدبابيس، وأنشطته المشبعة بالسرية، والحيل، والخداع.. واليوم نرى أنشطة التعدين على قدم وساق مشبعة بالهـس في إفريقيا وغيرها، أتمنى أن يقينا الله شرور من يستغل تلك النعم بطرق الله أعلم بها، وهو من وراء القصد.