قادتني الصدفة خلال الأسبوع الماضي لزيارة أحد الأصدقاء كان طريح الفراش الأبيض بأحد المستشفيات الحكومية، وبمجرد دخولي من بوابة المستشفى لفت نظري وجود العديد من الشباب والشابات السعوديين في مكاتب الاستقبال وقسم شركات التأمين الطبي؛ وهم يمارسون أعمالهم بنشاط وحيوية، فانفرجت أساريري، وشعرت براحة نفسية هائلة في دواخلي، فها هم أبناء بلادي يقدمون لوحة مشرقة، ويفنّدون الأكاذيب والأوهام التي تتهمهم بالكسل وعدم الرغبة في العمل، إلى غير ذلك من الصور النمطية السالبة التي كانت ولا تزال تعشش في أذهان البعض.
لكن بصفتي أحد العاملين في المجال الطبي لسنين طويلة، فإنني أعلم أن هذه الصورة الزاهية ليست موجودة في ما يتعلق بالعاملين في المهن التخصصية والفنية، مثل الأطباء وفنيي التمريض والتحاليل والأشعة، فهي وظائف تزداد فيها نسبة العمالة الوافدة.
ومما يؤسف له أن هذا الغياب يحدث في الوقت الذي يشغل فيه أطباؤنا وظائف مرموقة في الخارج، وينالون التقدير، ويشغلون مناصب رفيعة، فيما تقوم جامعاتنا - التي تنال تصنيفاً متقدماً بين الجامعات العالمية - بتخريج العديد من هذه الكوادر سنوياً.
بالبحث في الإحصاءات المتوفرة على مواقع الجامعات ووزارة الصحة، تجد أرقاماً مدهشة، حيث إن عدد الأطباء العاملين في المملكة حسب إحصاءات العام 2022 بلغ 93966 طبيباً، منهم 25249 سعودياً مقابل 68717 وافداً، فيما بلغ عدد طلاب وطالبات كليات الطب البشري في كافة الجامعات السعودية لنفس العام 23758 طالباً وطالبة، أي أن كل جامعاتنا لن تكون قادرة على تخريج أكثر من 4 آلاف طبيب وطبيبة سنوياً، وحتى يمكن الوصول إلى عدد من الأطباء يساوي الموجودين في بلادنا حالياً، فإننا بحاجة إلى 17 عاماً، هذا إذا لم يزداد الطلب على الخدمات الصحية، وهو ما لا يمكن توقعه.
هنا يبرز سؤال كبير عن الأسباب التي تمنع جامعاتنا عن مضاعفة أعداد الطلاب الذين يدرسون في الكليات العلمية، لا سيما في ظل الاهتمام الكبير الذي توليه قيادتنا لهذه الجامعات، والميزانيات الهائلة التي ترصدها لها والتي تفوق قطعاً ما تحظى به العديد من الجامعات في الدول العربية الشقيقة، ورغم ذلك فإنها تقوم بتخريج أضعاف الأعداد التي نراها في المملكة.
الجانب الآخر الأكثر إثارة للحيرة، هو أن كثيراً من جامعاتنا الحكومية والخاصة تتردد في استيعاب وتوظيف أبنائنا الذين عادوا من الابتعاث، بعد أن حصلوا على أرفع الشهادات من أرقى الجامعات العالمية، وتتمسك بإصرار عجيب بحصولهم على سنوات من الخبرة. فإذا كانت الأبواب مؤصدة أمامهم، فمن أين لهم الحصول على الخبرة المطلوبة؟.
ومع التسليم بأن الجامعات السعودية تسعى لتوظيف كوادر علمية مؤهلة ومعروفة على مستوى العالم، لرفع مستواها الأكاديمي ومساعدتها على تطوير البحوث العلمية حتى تنال درجات أرفع في التصنيف العالمي، وهذا مطلوب بطبيعة الحال، لكن هذه الكوادر التي تتمتع بخبرات تراكمية واسعة، وسيرة علمية مرموقة يمكن الاستفادة منها في نقل تجاربها وخبراتها ومهاراتها لكوادرنا الوطنية؛ عبر التدريب والاحتكاك المباشر الذي يسهم في توطين المعرفة.
السعودة ليست مجرد إحلال المواطنين في الوظائف التي يشغلها الوافدون، بل هي مهمة أعمق من ذلك بكثير، وتهدف أساساً لرفع قدرات ومهارات الشباب السعودي بالقدر الذي يجعله مؤهلاً للمنافسة في سوق العمل، ليس على الصعيد المحلي فقط، بل على مستوى العالم.
لذلك فإن مجرد توفير الوظائف الإدارية والإشرافية للسعوديين، لا يعني بالضرورة نجاح برامج السعودة، حتى وإن كانت رواتبها مرتفعة، فالمقصود هو ترقية قدراتهم لشغل المناصب المرموقة والقيادية لتحقيق الأمن الاجتماعي، وهو ما ذكرت وسائل الإعلام أن مجلس الشورى طالب به عبر تعديل نص الفقرة الثانية من المادة (26) في نظام العمل لتوطين القيادات بنسبة 75%، لكن ذلك لن يتحقق ما لم نتخلَ عن النظر لمصالحنا الذاتية الضيقة.