مدينتنا المنورة؛ طيبة الطيبة، تهفو إليها أفئدة المسلمين على تنوُّع أعراقهم ولغاتهم -وعلى بُعد بلدانهم عن مدينة الرسول عليه الصلاة والسلام- منذ أن دخلوا في الإسلام وإلى يومنا الراهن وإلى ما شاء الله، آملون أن يكتبَ الله لهم زيارة بيت رسوله الكريم محمَّد بن عبدالله عليه الصلاة والسلام، وعلى صاحبه رضي الله عنه أبي بكر الصدِّيق؛ رفيق دربه من مكة المكرمة إلى يثرب (المدينة المنورَّة) مُهاجرًا بعد أن آذاه أهله وأجمعوا على التخلُّص منه، وعلى الخليفة عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه الذي كتب الله على يده الفتوحات لنشـر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها، وإقامة دولة العدل والعمل... ففي عهده أصبحت المدينة المنـوَّرة (العاصمة الإسلاميَّة) الأولى في التاريخ، ومكة المكرَّمة (العاصمة المقدَّسة).
تاريخ جمع بين أهالي المدينتين المقدستين وشائج القُربى والحسب والنسب.. ويشدُّون الرحال فيما بينهم، في شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى خاصَّة في أجواء روحانيِّة ينبعث أريج عطرها من بيت الله الحرامِ في مكة المكرمة، ومن بيت رسولنا الكريم في طيبته.
إلى وقت ليس بالبعيد، كان السفر بين المدينتين في المناسبات الدينيَّة ركبٌ يضمُّ الشباب والشيبَ مرتدين الملابس التقليديَة وممتطين الخيل والبغال والحمير التي كان جلدها يُصبغ بالحناء، والأجراس معلقة في رقابها. ويودَّع الركب المكيُّ عند خروجه من مكَّة المكرَّمة من حشودٍ غفيرة من الأهالي بالأهازيج وإلقاء الخطب، والأناشيد الدينيَّة، ويُستقبلون بمثل ذلك عند وصولهم (باب العنبريَّة) - مدخل المدينة المنورَّة - ويواصل الركب سيره وسط الحشود المهنئَّة بسلامة الوصول قاصدًا المسجد النبوي الشريف.
وبوصول (باب السلام) يترجًّل الركب وتدخل جموعه الحرم خاشعين وشاكرين المولى على فضله وكرمه بأن مكًّنهم من شرف الوقوف أمام المواجهة الشريفة للسلام على سيِّد البشر؛ فخرِ ربيعة ومُضر، وصلاة ركعتين في روضة من (رياض الجنَّة).
يخرجون من الحرم وفي انتظارهم مَن سيرتِّب لهم أمر سكناهم، ومن ثمَّة اصطحابهم لزيارة سيِّد الشهداء حمزة بن عبدالمطلب، عمِّ رسولنا في سفح جبل أُحد، ومنه إلى مسجد قباء لصلاة أداء الفرض، ومنه إلى مسجد القبلتين، فمسجد الجمعة فالمساجد الخمسة، ليعودوا إلى سكناهم، وليجدوا بانتظارهم مأدبة طعام مدينيِّة أعدَّها لهم ملَّاك المنازل التي سيقيمون فيها أيَّام زيارتهم. في أيَّام زيارة الركب تنشط حركة البيع في أسواق التمور والنعناع والورد الجوري في الأسواق المركزيًّة، وفي أُمسيات الزيارة يلبُّون دعوة وجهاء المدينة المنورَّة للعشاء ولسماع السيرة النبويَّة من العلماء، وقصائد المديح من المُنشدين، ثمَّ يتجوَّل الركب في أسواق المدينة وساحاتها يتقدًّمهم (أمير الركب)، وكان من أشهر أمرائه في القرن المنصـرم (أبو عرب هاشم) الذي لم يُعرف عنه استخدام وسيلة تنقُّل داخل مكَّة المكرَّمة وخارجها خلاف حماره الذي صبغه بأجمل الألوان، فاتحًا له الطريق للوصول إلى متجره في (باب زيادة).
وبمثِل ما استُقبل به الركب من أهالي المدينة المنوَّرة، يودَّع ليُستقبل عند عودته إلى مكة المكرمة بمهرجان تُلقى فيه كلماتُ الترحيب وأجمل القصائد، تتبعه الولائم الشهيَّة يحضـرها الوجهاء والأصدقاء والجميع مشتاق لسماع تفاصيل مسيرة الركب في الذهاب والإياب.