تعلمنا من قصة جيش النمل مع سيدنا سليمان فصاحة اللسان، والتماس الأعذار والأخذ بالأسباب، ذلك الجيش الذي يسير بانتظام، فلا يتقدم أحد عن موضعه ولا يتأخر أحد، جيش مدبر، كل قد عَلِمَ دورَه ومهمته، وكان المسير يتجه جهة وادٍ من النمل صغير، لكنه بسكانه كثير، قد ملِئ حيويةً ونشاطًا وانشغالًا وأعمالًا، بيد أن نملة هناك كانت ترقُب المشهد، وتتابع الموقف وتشاهد الحدث، فأيقنت أنه ليس بينهم وبين الهلاك إلا بضع لحظات، فبادرت وأنذرت، وصاحت وحذَّرت، وكأننا بها تنادي بصوت مرتجف خائف وجِل من مستقبل مظلم ومصيبة متحينة، فقالت: ﴿يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ﴾.
ما أروعه من بيان وجيز بليغ، وما أروعها من كلمات منسقة مرتبة منظمة، ما أجملها من عبارات ملؤها الفصاحة والبلاغة.
ولنتأمَّل سوياً هذه الفصاحة في التعبير وهذا البيان في الخطاب، وهذا التحذير المختصر من سوء العاقبة والمصير، لقد استخدمت هذه النملة أغلب أساليب الإبداع اللغوي فنادت ونبهت فقالت: (يا أيها)، ثم سمت وأمرت، فقالت: (النمل ادخلوا)، ثم نصت فقالت: (مساكنكم)، ثم نهت فقالت: (لا يَحطمنكم)، ثم خصت وعمَّت فقالت: (سليمان وجنوده)، ثم اعتذرت فقالت: (وهم لا يشعرون)، لقد شعرت النملة أن هناك خطرًا داهمًا وهلاكًا حتميًّا محققًا، وكارثة كبيرة قادمة.!
فهل يشعُر مَن يسكن القصور الفارهة والعمائر العالية بما يُعانيه ساكنو العشش والخيام ومن يفترشون الأرض ويلتحفون السماء؟! هل يشعر من ينامون على الأرائك والأسِرَّة بمن ينامون على الأرصفة والطرقات؟! هل يشعر من ينامون ملء بطونهم بمن ينامون على الجوع ويستيقظون على الجوع؟
إنها حكمة بالغة ودرس عظيم تُلقيه نملة ضئيلة من مخلوقات الله على الإنسانية كلها؛ لتتيقظ ولا تطغى، ولتعلم أن الكون كله لله، والعزة كلها له، ولا ملك إلا ملك الله.
نعم.. إنه موقف صغير عابر، لكنه مليء بالدلالات والإشارات والعبر والإلماحات، فلقد كان خطاب النملة عامًّا لجميع مملكة النمل، ولَم تجعل خطابها خاصًّا لفئة دون أخرى، سواء أكانت هذه الفئة من كبار مملكة النمل أم من المقربين، وهذا فيه ما فيه من وجود العدل في مجتمع النمل عند حصول الضرر، هذه النملة الصغيرة كان لديها رصيد عالٍ من الولاء لقومها ومحبتها لهم، وهذا الولاء وتلك المحبة لم تكن مجرد شعور ذاتي قابع في الضمير، بل ترجمته هذه النملة إلى واقع وعمل كان من نتائجه إنقاذ شعبها من الدمار، وهذا درس آخر تعلمنا إياه هذه النملة بعد درس الشعور بالآخرين، وهو درس الانتماء الحقيقي للوطن وللمجتمع، فقدمت هذه النملة أعلى درجات التضحية لحماية وطنها وقومها، وكان بوسعها أن تنتحي جانبًا، ولا تفكر إلا في إنقاذ نفسها مبررة ذلك بـ(ماذا أفعل منفردةً أمام هذا الجيش العظيم؟)، لكنها اعتبرت نفسها حارسةً أمام قومها، وما رضيتْ أن يمسَّهم أيُّ سوء، فاختارت المخاطرة بالسير في نفس خط سير الجيش لإنقاذ قومها؛ مما يدل على التضحية العالية، والمبادرة والإيجابية النادرة التي كانت سببًا في إحياء أمة من النمل.
حسناً ماذا بقي؟!!
بقي القول: إنَّ النملة لم تكتفِ بنداء ( يا أيها النمل)، بل قدمت الحلول العملية، والمخارج التطبيقية، وكم نحن بحاجة إلى هذه التصور العميق في حل المشكلات، يجب أن نقدم الحلول بعد تشخيص المشكلات، فالتلاوم والتشكي لا يزيل المشكلة، ولا يرفع البلاء، ولهذا قالت: (يا أيها النمل ادخلوا)، إنه نداء تحذير، وصرخة نذير، ونفس من أنفاس النصيحة، صدعت به هذه النملة الصغيرة الناصحة، فكيف حملت هم هذا الوادي الكبير بما فيه من النمل، وهي صغيرة في حجمها، ضئيلة في جسمها، ضعيفة في قوتها، وقفت وقد رأت الجموع الهائلة، فتحركت للنصيحة، ونادت بنداء عذب مؤدب مهذب تحذِّر من الخطر، وتبين الحل.
ولم تكتف بالصراخ والعويل، بل قدمت خطةً عاجلة للحل السريع الناجع، فقالت: (ادخلوا)، وإلى أين؟ (ادخلوا مساكنكم)، وهذه رسالة أخرى ودرس جديد: على أن المسكن هو الملجأ، والمسكن هو الأمان، والمسكن هو الملاذ حال الخوف والرعب والهلع.!!