تؤثِّر قوةُ الإيحاءِ الاجتماعي على الرأي العام والسُّلوك الجَماعي، فتلك القوَّة الخفيَّة الخارقة، يمكن أن تنتشر في الجُموع كالنَّار في الهشيم، وبخاصَّة مع حُمَّى الإعلام الحديث الذي يقتحمُ عليك خصوصيَّتك، ولا يدع لك فرصةَ التفكيرِ المنطقيِّ والمُراجعة العقلانيَّة.
وقد يكونُ الشَّخصُ ذكيًّا حكيمًا مُتأمِّلًا متأنِّيًا حين يكون مُنعزِلًا مُنفردًا، لكنَّه عند اختلاطه بجمهورِ الناس، قد ينقلبُ غبيًّا نزِقًا مَقُودًا عنيفًا، فالجماهيرُ بطبيعتها عاطفيَّةٌ انفعاليَّةٌ غير عقلانيَّة، ومن خلالِ الإيحاءِ الاجتماعي والعدوى النَّفسيَّة، يتعرَّض الفردُ إلى ضغوطاتٍ عنيفةٍ من أقرانِه وأفرادِ جماعته، بحيث يُمكنه بصورةٍ تلقائيَّةٍ تبرير تصرُّفاته الهوْجاء، ومُعتقداتِه الحمقاء. وحديثًا، أضحت منصَّاتُ الإعلام الرَّقمي رائدةً في تجهيلِ واستقطابِ الجماهير، وتعميقِ التخلُّف المعرِفي، ونشرِ الابتذال وغسْلِ العقول، فتدفُّق المعلوماتِ المُفرطة عبرها، يتسبَّب لأحدِهم في تكدُّس الذَّاكرة وضبابيَّة الفهم، كما أنَّ تناول وجباتٍ معرفيَّة مُختَلطة فاسدةٍ نوعيًّا، يتسبَّب في سوء هضمٍ خطير، ينتهي بـ(قيءٍ) سلوكي و(إسهالٍ) فكري!.
إنَّ جماهيرَ الناسِ لا يُمكنها استيعاب الأفكار العميقةِ والنيِّرة، ولا تحديد الوجهة الأصحِّ للانطلاق في مسارِ التغيير والتطوُّر والنفع العام، وإنَّما هُم أولئك الأفرادُ العباقرة، والرُّواد المُندفعون، والفلاسفةُ المبدعون، والقلَّةُ المُغامرة من نُخبة المجتمع، الذين نَدين لهم بالفضلِ في التغيير والإصلاحِ والتطوُّر، ومِن هذا الواقع، ليس من الحكمةِ الرِّهانُ على وعي الجماهير في الأحداثِ الكُبرى والقراراتِ المصيريَّة، وبخاصَّة في مجتمعات لا يحظى الفردُ من العامَّة فيها بوعيٍ مُعتَبر، أو فَهمٍ مُنفتح، أو تعليمٍ مُستنير.
تكمن المشكلة في انتشارِ وباء الغباءِ العاطفي، بحيث تُصبح الفطنةُ والذوقُ السليمُ والتفكيرُ المنطقيُّ، أمورًا شاذَّةً تلفتُ الانتباه وتُثير التعجُّب، وينقلبُ بسببها الشخصُ الذكيُّ وسط الجماهيرِ المُنفلتة، إلى غريبٍ يُشار إليه ببنانِ الاستهجان. إنّ شخصيةَ الإنسان -بشكلٍ عام- مُتناقضة، ومزيجٌ من الخير والشرِّ والحِكمة والسَّفه، والترفُّع والتسفُّل، فهو يتقمَّص شخصيَّةً مُعيَّنة بحسْب قوَّة الإيحاءِ المُجتمعي، ومدى تأثُّره بالعدوى النَّفسيَّة وانخراطه في «الهِستيريا» الجماعيَّة، وتلكُم من أهمِّ أسباب التَّسليمِ الجمْعي بكثيرٍ من الآراء والأفكارِ والسُّلوكيَّات، فتيارُها جارفٌ لا ينجو منه إلَّا القليلون، وكلَّما اعترفَ الإنسانُ بها واقتنع بِوقوعه تحتَ تأثيرها، كان أقربَ إلى الواقعيَّةِ والاستقلاليَّة، والحياديَّة والموضوعيَّة.