إنَّ السباقَ على الإتقانِ والجودةِ سلوكُ جميعِ الأممِ والحضاراتِ عبر التَّاريخ، ولكنَّه اليومَ في هذا العصرِ الذي نَعِشُهُ أصبحَ بالنسبةِ إلينا هدفًا إستراتيجيًّا وواجبًا دينيًّا ومطلبًا حضاريًّا، في هذا العصرِ الذي لا مكانَ فيه لأنصافِ وأشبَاهِ المتعلِّمِينَ، هذا العصرُ الذي يُطْلِقُ عليه بعضُ المفكِّرينَ عَصْرَ الإتقانِ والجودةِ الشاملةِ.
ونحن نَلْمَسُ اليومَ إدراكًا واضحًا لدى قيادتنِا الرشيدةَ -حفظها الله- أنَّ التعليمَ هو خيارُنا الأولُ والوحيدُ للنهوضِ الحضاريِّ بينَ الأمَم، وأنَّ الاستثمارَ في عقولِ أبناءِ الوطنِ وبناتِهِ هو الاستثمارُ الدائمُ والأمثلُ؛ لأنَّهمُ النَّبْعُ الذي لا يَنْضَبُ أبدًا.. والذي يطَّلِعُ على حَجْمِ الاعتماداتِ الماليَّةِ السنويَّة ِللتعليمِ في بلادِنا الحبيبةَ يُدْرِكُ حجمَ هذه التطلعاتِ، وبُعدَ الآفاقِ التي تستشرِفُ فيها بلادُنا الرؤيةَ المستقبليَّةَ لجودةِ التَّعليمِ في المملكةِ.
إنَّ هذا الزمنَ هو زمنُ العلمِ والمعرفةِ.. فمن ملكَ التوابلَ في القرنِ التاسع عشر الميلادي ملكَ العالم، ومن ملكَ النفطَ والغازَ في القرنِ العشرينِ ملكَ العالم، ومنْ يملكُ اليومَ العلمَ والمعرفةَ سوفَ يملكُ العالمَ.. والأمثلةُ على ذلكَ كثيرةٌ.كوريا الجنوبيَّة التي خرجتْ من الحربِ في أوائل الخمسينيَّات الميلاديَّة، وهي دولةٌ شبهُ محطَّمةٍ على جميع المستويات، سواء الاقتصاديَّة أو الاجتماعيَّة، وبعد تضحيات وجهود استمرَّت عقودًا من الزَّمن، تمكَّنت هذه الدَّولةُ من تجاوز مشكلاتِهَا والتحوُّل إلى دولةٍ متقدِّمةٍ تنافسُ العديدَ من الدُّول العُظمى، ورغم تعدُّد الآراءِ حولَ أسبابِ نجاحِ التجربةِ الكوريَّةِ الجنوبيَّة، إلَّا أنَّ الجميعَ اتَّفقُوا على أنَّ جودةَ التعليمِ الكوريِّ يُعتبر من أهمِّ مقوِّماتها.
جزيرة صغيرة في جنوب شرق آسيا، لا تملكُ أيَّ مواردَ طبيعيَّةٍ، لا يوجدُ بها سوى عقارب وثعابين الصحارى السَّامَّة، وحرها المُحرق، استطاعت خلال سنواتٍ قليلةٍ أنْ تلحقَ بالعالمِ الأوَّل، وبالمعرفةِ أصبحت واحدةً من أكثرِ الدُّولِ تطوُّرًا في العالمِ.. إنَّها (سنغافورة)، وقد صرَّح باني نهضتها (لي كوان) بأنَّ تعزيزَ النِّظام التعليميِّ كان هو البوابة الكُبْرَى لهذه النهضةِ السنغافوريَّةِ المذهلةِ.
روندا، الدَّولةُ التي مَزَّقَتها ودمَّرتها الحربْ الأهليَّةُ أو ما يُعرَف بالحربِ القبليَّةِ بين قبيلتَي «التُوتسِي والهُوتوُ»، والتي استمرَّت لمدَّة أربع سنواتٍ (1990م-1993م)، استطاعت هذهِ الدولةُ المدمَّرةَ النهوضَ بالتعليمِ، فَحَققَتْ بذلكَ زيادةً كبيرةً في دخلِ الفردِ لديها، مع أنَّها لا تَملِك ما تملكهُ بلدانٌ أُخْرَى من مصادرَ للدَّخلِ وثَرواتٍ عِلْمِيَّةٍ وطبيعيَّةٍ، ومَعَ ذلكَ أصّبَحتْ من أغنىَ بلدانِ إفريقيا السوداء وأكثرها تَقَدُّمًا.
وأخيرًا فلندا التي اختارتهَا الأممُ المتَّحدةُ أسعدَ مكانٍ في العالم، التعليمُ هو معجزةُ فلندا، حيث تبدُو وكأنَّها كوكبٌ آخرُ في المنظومة التعليميَّة العالميَّة. فلندا لم تصنعْ نظامًا معرفيًّا من الخيال العلميِّ، وإنَّما واكبت التطوُّرات واستفادتْ من تجاربِ الآخرِينَ، وسمحتْ لباحثيها في التعمُّق بمناهجِ التَّعليم، فخرجت بنموذج فريدٍ من نوعِهِ، وحقَّقت بذلك نتائجَ باهرةً جعلت العالم المتقدِّم يقفُ مذهولًا أمامَ إنجازاتِهَا المعرفيَّة.
إنَّ المعرفةَ كما تقومُ على التَّحْكِيكِ تقومُ على الاحتكاكِ بالآخرينَ ومعرفةِ ما لديهم مِنْ عناصرِ القوَّةِ، وتقديمِ التجاربِ الخاصَّةِ لهم، وكما يُقال: «الحكمةُ ضالَّةُ المؤمنِ، أنَّى وَجدَها كانَ هُو أوْلَى النَّاسِِ بهَا».