فكرة التحوُّل لدولة منتجة للصناعات الغذائيَّة على مستوى العالم، لا يتعلَّق فقط بإنتاج بعض الحاصلات الزراعيَّة بكمٍّ كبير وضخم، ولكنَّه يتعلَّق بمدى وجود إستراتيجيَّة متكاملة لبناء صناعة غذائيَّة متكاملة، ذات أفق وأهداف محليَّة وإقليميَّة ودوليَّة، فالمملكة من أفقر الدُّول عالميًّا في المياه، وهذا يمنعها من التوسُّع في زراعة بعض المحاصيل بالكمِّ والقدر الكافي؛ لإحداث صناعة تعمل على تحقيق المتطلَّبات المحليَّة، فما بالك بفكرة التَّصدير؟.
صحيح أنَّ توفُّر المواد الخام محليًّا يلعبُ دورًا هامًّا ومحوريًّا في تميُّز أيِّ صناعة عن غيرها؛ لأنَّه يساهم بصورةٍ كبيرةٍ في خفض التَّكلفة، ولكن هذا ليس دائمًا، فدولتا كوت ديفوار، وغانا، رغم إنتاجهما أكثر من 60% من حبوب الكاكاو في العالم المكوِّن الرئيس لصناعة الشيكولاتة، تُقدَّر حصتهما بـ6 مليارات دولار من صناعة الشوكولاتة، التي تُقدَّر عالميًّا بـ120 مليارَ دولارٍ، وفقًا لموقع سويس أنفو السويسريِّ، ومن المتوقَّع أنْ يصلَ هذا الرقم إلى 200 مليارِ دولارٍ بحلول عام 2028، ويستهلك العالم سنويًّا أكثر من 7 ملايين طنٍّ متريٍّ من الشوكولاتة وفقًا لموقع يورو نيوز.
تتصدَّر الشركات الأمريكيَّة والأوروبيَّة صناعة الشوكولاتة عالميًّا، رغم أنَّ هذا المنتج ليس أمريكيًّا أو أوروبيًّا في الأساس، فشركة «مارس ريجلي» الأمريكيَّة تمتلكُ أشهرَ العلامات التجاريَّة لشوكولاتة مثل: Galaxy، وSnickers، و Skittles، ووصل حجم المبيعات السنويَّة لأكثر من 18 مليارَ دولارٍ، وتُعتبر شركة Ferrero الإيطاليَّة واحدةً من كُبْرَى شركات الشوكولاتة في العالم بمبيعات سنويَّة تزيد عن 13 مليارَ دولارٍ، وتمتلك ماركات الشوكولاتة الشهيرة الأخرى Kinder وNutella، كما تمتلك شركة Mondelez الأمريكيَّة، التي تأسَّست في عام 2012 -الآن- بعضًا من أشهر العلامات التجاريَّة للشوكولاتة في العالم مثل Cadbury، وتعمل الشركة حاليًّا في أكثر من 80 دولةً، وتحقِّق إيرادات سنويَّة تبلغ حوالى 12 مليارَ دولارٍ؛ ممَّا يجعلها واحدةً من أكبر 10 شركات شوكولاتة في العالم، وفي هذا الصدد لا ننسى شركة Lindt السويسريَّة، وهي واحدة من أشهر مصنِّعي الشوكولاتة، وتحقِّق مبيعات سنوية ما يقرب من 4 ملياراتِ دولارٍ.
ليس هذا فقط، فبريطانيا غير المنتجة لمحصول الشاي، تمتلك كُبْرَى الشركات والماركات العالميَّة المتخصِّصة في صناعة الشاي، فـشركة LIPTON البريطانيَّة تُعدُّ من أشهر ماركات صنع الشاي في العالم، ومتربِّعة في قائمة أفضل ماركات الشاي لأكثر من 125 عامًا، و»تيتلي» هي علامة تجاريَّة رائدة في صنع الشاي في بريطانيا، تصدر منتجاتها إلى حوالى 40 بلدًا حول العالم، ومن المتوقَّع أنْ ينمو حجم سوق الشاي من 51.26 مليارَ دولارٍ أمريكيٍّ في عام 2023 إلى 67.69 مليارَ دولارٍ أمريكيٍّ بحلول عام 2028، بمعدل نموٍّ سنويٍّ مركَّبٍ قدره 5.72٪ خلال فترة التنبؤ (2023 - 2028).
ما سبقَ ذكره يعني أنَّ توفر المادة الخام المستخدمة في الصناعات الغذائية محلياً بقدرٍ ضخمٍ ليس شرطاً لإحداثِ صناعة غذائية متقدمة، وهذا يدحضُ الحجج التي تتحدث على أنَّ فكرة إعداد صناعات غذائية متطورة ذات أُفقٍ محليٍّ وإقليميٍّ وعالميٍّ أمرٌ صعبٌ؛ بسبب مناخ المملكة الصحراويِّ، فيكفي وضع إستراتيجية لهذه الصناعة، ودراسة السوق، وعمل منتج ذي جودة عالميَّة يُلبِّي كافَّة الأذواق، وبسعر منافس، وهذا ليس شرطًا في كلِّ الأحوال، فقد تكون الجودة الفائقة مصدرًا لتسويق السلعة، ومن ثَمَّ فلنْ تجدَ طريقًا سوى النجاح، والانتشار المحليِّ، ومن ثَمَّ الانتشار على المستوى الإقليميِّ، والطريق سيكون مفتوحًا أمام العالميَّة.
وأخيرًا -وليس آخرًا- فإنَّ تقدُّم الأمم لن يحدث إلَّا بالصناعة، سواء كانت صناعات غذائيَّة، أو تكنولوجيَّة، أو تعدينيَّة، ولاسيَّما إذا كان هناك دعمٌ للصناعة في كافَّة المجالات؛ لإحداث حالة من الزَّخم الصناعيِّ في المجتمع، وتحويله إلى مجتمع صناعيٍّ منتجٍ، وبالتَّالي فالتقدُّم سيكون النتيجة لا محالة، فلم أرَ دولةً صناعيَّةً سواء في الماضي، أو الحاضر، وتُصنَّف على أنَّها دولةٌ ليست متقدِّمةً.