يجيبُ عن هذا السؤال بعضُ العلماءِ والمؤرِّخين، منهم: عالم الأنثروبولوجي البريطاني «جيمس فنتون»؛ في دراسةٍ قام بها على يهود إسرائيل، تثبت أنَّ 95% من اليهود ليسوا من بني إسرائيل التوراة، وإنَّما هم أجانبُ متحوِّلُون إلى الدِّين اليهوديِّ أو مختلطُون، وهذا يعني لو سلَّمنا جدلًا بصحَّة ما جاء في سفر التَّكوين: في ذلك اليوم قطعَ الرَّبُّ مع إبرام ميثاقًا قائلًا: «لنسلِكَ، أُعطِي هذه الأرضَ من نهرِ مصرَ إلى نهرِ الكبيرِ» (تكوين: 15/ 18)، «وأُعطي لكَ ولنسلِكَ مِن بعدِكَ أرضَ غربت، كلَّ أرضِ كنعان ملكًا أبديًّا» (تكوين: 17/8)، ولو سلَّمنا جدلًا أنَّ كلمة «نسلِكَ»، تقتصرُ على إبراهيم من إسحاق -عليهما السلام- فقد انقرض هذا النسلُ، أو اختلط ولم يبقَ منه سوى 5%.
فلقد كان بنو إسرائيل، يقلِّدُون الكنعانيِّين في كلِّ شيء، ولم يكونُوا بمعزلٍ عن سكَّان المنطقة حتَّى في الاختلاط بهم عن طريق الزَّواج.. فيوسف -عليه السلام- تزوَّج أسنات بنت نوطي فارع، كبير كهنة مصر، فولدتْ له: منسي وأفرايم، وموسى -عليه السلام- تزوَّج صفوة بنت شعيب مدين، وهي بدويَّة أعرابيَّة، كما تزوَّج تربيس، وهي امرأةٌ كوشيَّةٌ «حبشيَّة»، ولم تذكر التوراةُ أنَّه تزوَّج بأُخْرَى غيرهما، ويوشع بن نون تزوَّج راحاب الكنعانيَّة.. ومن هنا يتَّضح أنَّ نقاء بني إسرائيل، واتِّساع مملكتهم ليس سوى خرافةٍ توراتيَّةٍ تلموديَّةٍ، فأبناء بني إسرائيل وأولادهم وأحفادهم، تزوَّجوا من الشعوبِ التي عاشوا بينها، وزوَّجوهم من بناتهم، واتَّخذوا لهم من أسمائهم أسماءً.. فإبراهيمُ، ويعقوبُ، ويوسفُ، وإدريسُ، وإسرائيلُ، وناحورُ، وتارحُ، وصهيونُ، ويهوذا، كلُّها أسماء كنعانيَّة.
سفر أشعيا ذكرَ القدسَ باسم عربئيل، ويعقوبُ سُمِّي بإسرائيل نسبةً إلى مكان قرب نابلس، وصهيون اسمُ تلٍّ من التلال المبنيَّة عليها مدينة القدس، وقد استخدم «الأعشى» في شعره كلمة أورشليم، وعنى بها القدس.
إنَّ أخلاط الشعوبِ الذين اعتنقُوا التوراةَ والتلمودَ الذين عرفوا باسم اليهود، ليسوا كلهم من العبرانيِّين ولا من بني إسرائيل إلَّا بنسبة 5%، ويبيِّن هذا تاريخ اليهود وخط سيرهم في رحلة الشتات بعد غزو تيطس الرومانيِّ لفلسطين، فانتشرت جماعات منهم إلى شمال الجزيرة العربيَّة، واستقرُّوا في تيماء، وفدك، ووادي القرى، وخيبر، ويثرب، وجماعات انتشرت في أوروبا، وأطلق عليهم اسم السفاراديم، وتشتَّتوا في عدَّة دول أوروبيَّة، ثم طُردوا منها، فاعتصمُوا بالدولة الإسلاميَّة في الأندلس، حتَّى خرج العربُ منها عام 1492م، فلجأوا إلى الدولة العثمانيَّة في سالونيك، ووصلوا إلى القدس، ويُطلق على هؤلاء يهود التوراةِ.. أمَّا يهودُ روسيا وأوروبا الشرقيَّة فأُطلق عليهم اسم يهود التلمود أو الإشكنازيم، وهم ليسوا من نسل إسرائيل، وإنَّما يتحدَّرُون إلى أصولٍ مغوليَّةٍ تتريَّةٍ وفلانديَّةٍ، اعتنقُوا اليهوديَّةَ ديانةً لهم في القرن الثامن الميلاديِّ، عندما اعتنقها ملك الخزر بولان عام 740، وتبعه أفرادُ حاشيته.
وهذا يُثبت أنَّ يهودَ العالم الموجودِينَ في عصرنا الحديث ليسوا من أصلٍ ساميٍّ، ولا ينتمُونَ إلى إبراهيمَ -عليه الصلاة والسلام- ولا إلى إسرائيل «يعقوب» -عليه السلام-.
يقول عالم الأنثروبولوجي المصري «جمال حمدان» في كتابه: «اليهود أنثروبولوجيا»: إنَّ اليهودَ المعاصرينَ الذين يدعون الانتماءَ أصلًا إلى فلسطين ليسوا هم أحفاد اليهودِ الذين خرجوا منها في فترة ما قبل الميلادِ، وإنما ينتمي هؤلاء إلى إمبراطورية الخزرِ التترية التي قامت بين بحر قزوين والبحر الأسود، وقد اغتالته الموسادُ؛ لكشفه هذه الحقيقة الأنثروبولوجية.
وقد أثبتها أيضًا المؤرِّخُ اليهوديُّ «شلومو ساند» في كتابه: «اختراع الشعب اليهودي»، حيث يقول مقدِّم الكتاب «أنطوان شلحت»: «على رغم أنَّ عمليَّة اختراع الشعبِ اليهوديِّ كانت جزءًا من عمليَّة اختراع شعوبٍ وأممٍ شهدتها أوروبا في القرن التاسع عشر، إلَّا أنَّ التمسُّك بالمتخيَّل القوميِّ لدى إسرائيل والحركة الصهيونيَّة كان -ولا يزال- أشدَّ هوسًا واستحواذًا ممَّا لدى أمم وشعوب معاصرة أُخْرَى.. ويقول: «يعود كتاب شلومو ساند إلى الماضي السحيق، ليثبت أنَّ اليهودَ الذين يعيشُونَ اليوم في إسرائيل، لا يتحدَّرُون من نسلِ الشعبِ العتيقِ الذي سكن مملكةَ يهودا، خلال فترة الهيكل الأوَّل والثَّاني. إنَّما تعود أصولُهم إلى شعوبٍ متعدِّدةٍ اعتنقت اليهوديَّةَ على مرِّ التاريخ في أماكن شتَّى.
ويقول شلومو ساند: «كانت هناك حاجةٌ إلى اختراعِ الشتات كقاعدةٍ لتشييد ذاكرةٍ بعيدة المدى يزرع فيها شعب منفي من صنع الخيال، كي يقدم كاستمرار متَّصل لشعبِ التوراةِ الذي سبقه».. وبهذا يحرصُ «ساند» على برهنةِ أنَّ أصول اليهود المعاصرِين لا تنتهي إلى أرضِ فلسطين القديمة. إضافةً إلى أنَّ اللهَ تعالى حرَّم أرضَ فلسطين على بني إسرائيل، عندما طلب موسى -عليه السلام- من قومه دخول الأرض المقدَّسة في سورة المائدة: (قَالُواْ يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَّدخُلَهَا أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَاذهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ) «24».. فحرَّمها اللهُ عليهم، وكتبَ عليهم التيهَ أربعينَ سنةً (قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ)»26».. وهاتان الآيتان تؤكِّدان أنَّ لا حقَّ ليهودِ اليوم لشبرٍ من أرضِ فلسطين.. فوجود دولةِ اليهود الصهاينة في فلسطين فُرِض على الفلسطينيِّين بقوَّةِ السَّلاحِ، وسطوةِ الصهيونيَّةِ العالميَّةِ.