أثناء الكشف الطبيِّ، سألني الاختصاصيُّ عن درجة الألم في عظامي تصاعديًّا من واحد إلى عشرة، فجاء ردِّي سريعًا وتلقائيًّا «عشرون».. والسبَّب هو أنَّ الوعكة الصحيَّة التي آلمتني خلال الأيَّام الماضية، استبدَّت بضفائر الأعصاب النَّابعة من عامودي الفقريِّ، فضغطت بشدَّة على مخارجها.. يبدو أنَّه مجرَّد سوء تفاهم بيني وبين بعض فقرات عظام ظهري.. والحمدُ للهِ أنَّ جهاز الإنذار بداخلي لا يزال يعملُ بفعاليَّةٍ، فأصدر صفيرة الإنذار بالخَلل.. والصَّفيرة هنا هي الألم.. وبدون شكٍّ فإنَّ هذا الشعورَ هو نعمةٌ كبيرةٌ؛ لأنَّه يعكس خطورةَ الخلل الحاصل، فبدونه ستتدهور حالتنا الصحيَّة بطرق مخيفة، وبوجود حدَّتهِ بدرجات متفاوتة، ندرك أهميَّة وخطورة أوضاعنا الصحيَّة.. والألمُ هو أيضًا من أفضل المعلِّمين، فهو يلقِّن الدروسَ التي لا تُنسَى، والحمدُ للهِ على كلِّ حالٍ.. وعالم الصَّفيرات لا يقتصرُ على صحَّتنا فحسب، فخلال فترة الثلاثينيَّات الميلاديَّة، صمَّمت ألمانيا طائرةً حربيَّةً هجوميَّةً جبَّارةً اشتهرت باسم «شتوكا».. كانت تلك الطَّائرة مميَّزةً في شكلها وقدراتها التكتيكيَّة لتدمير الأهداف بدقَّة، من خلال الانقضاض الجبَّار من ارتفاعات شاهقةٍ.. وراجت سمعتها خلال عمليَّات الحرب الأهليَّة الإسبانيَّة خلال الفترة 1936 إلى 1939، ثمَّ خلال معارك الحرب العالميَّة الثَّانية.. وإحدى الصِّفات التي تميَّزت بها، صوتها المُرعب أثناء الانقضاض.. كانت مزوَّدةً بصفيرة تعملُ بضغط الهواء عند الانقضاض؛ لتُصدر صوتها المتميِّز؛ لتنشر الرُّعب في قلوب البشر على الأرض.
سبحان الله أنَّ ذكرى تلك الطَّائرة قد اندثرت، ولكنَّ صفيرتها بقيت في الذَّاكرة بعد مرور أكثر من تسعين سنةً على استخدامها.. وهناك أيضًا بعضُ الصَّواريخ التي كانت تُستخدم لضرب الأهداف الأرضيَّة، والتي كانت تُزوَّد بزعانف لإصدار الأصواتِ المرتفعةِ؛ لزرع الرُّعب في قلوب ضحاياها من عسكريِّين ومدنيِّين.. ولكن موضوعنا لا يقتصرُ على الصحَّة وآليَّات الحرب فحسب، فعالم الكائنات مُشبعٌ بالصفَّارات بأشكالها وأنواعها.. ومنها على سبيل المثال في مجتمعات الغربان، وهي أذكى الطيور.. وهبها اللهُ قدراتِ تخاطبٍ عجيبة لنشر الرسائل المختلفة.. ومن أهمِّها التَّحذير من المخاطر، بإصدار الأصوات المميَّزة، وبعضها مُشبعة «بالبكش».. ففي بعض الأحيان تكون الحيلة هي سلاح الضُّعفاء للوصول إلى مقاصدهم، كما هو الحال في عالم البشر.. وفي البحر أيضًا نجدُ صفَّارات التَّحذير والخطر.. وعلى سبيل المثال نجدُ الحيتانَ والدلافينَ التي تُصدر إشاراتٍ صوتيَّةً مميَّزةً ذات مدى طويل جدًّا يصلُ إلى مئات الكيلومترات.. وليس بالضرورة أنْ تكون الإشاراتُ مسموعةً، فالأخطبوطُ والحبَّارة لديهما القدرات -بمشيئة الله- بتغيير ألوانهما للتَّعبير عن رسائل مختلفة.. وأمَّا المخلوقاتُ البريَّة فكلُّنا سمعناها بشكلٍ أو بآخرَ، سواءٌ كانت صادرةً من صوت «العراري» المزعجة، أو عواء الكلاب الضَّالة -أعزكم الله-.
وكل ما جاء أعلاه لا يقارن بما يمارسه البشر.. الصفيرات الصادقة والكاذبة حولنا كثيرة ودائمة.. وخلال هذه الأيام سمعنا الأكاذيب الكثيرة فيما يتعلق بتبرير قتل المدنيين في الحرب على غزة.. سمعنا عن تبرير حرب الإبادة ضد المدنيين باستخدام نصوص من التوراة من سفر التثنية لإبادة العماليق، وكأنها صفارة إنذار عالية، علماً بأن رسالتها لسحق الجميع مرعبة للإنسانية بأكملها.
* أمنيــــــة:
آلامُ غزَّة تمثِّل صفيرةً للضَّمائر، فكيف يسمح العالمُ بمبرِّرات قتل وجرح المدنيِّين بمعدل يفوق العشرين إنسانًا في السَّاعة، منذ بدء القتال إلى اليوم؟.. أتمنَّى أنْ تتوقَّف هذه الممارسات البشعة فورًا، ففيها الظلمُ الذي لا يُرضي اللهَ -عزَّ وجلَّ- وهو من وراء القصد.