بنجاحٍ منقطع النَّظير، تتواصلُ فعاليَّات النُّسخة الثَّامنة من مهرجان الملك عبدالعزيز للإبل، الذي يتمُّ تنظيمه هذا العام تحت شعار «عز لأهلها»، في أرض الصَّياهد، التي تبعد 120 كيلومترًا شمال شرق الرِّياض، وتستمر لمدة شهر كامل، حيث تنتهي الفعاليَّات مع نهاية شهر ديسمبر الجاري.
ويُعدُّ هذا المهرجان بمثابة تظاهرةٍ عالميَّةٍ تجذب المهتمِّين بهذا التُّراث من كافَّة أنحاء العالم، خصوصًا مواطني دُول مجلس التَّعاون الخليجيِّ، الذين يحرصُونَ على المشاركة في السِّباقات والمنافسات المُصاحبة للمهرجان، وهو ما أضفى عليه طابعًا دوليًّا.
ولم تعدْ هذه المناسبة مجرَّد منافسات رياضيَّة تقليديَّة، بل تحوَّلت إلى فعاليَّات سنويَّة متجدِّدة، تحرص السعوديَّة على إقامتها لربط الأجيال النَّاشئة بتراث هذه البلاد، وعاداتها، وتقاليدها، المُستمدَّة من عمقها العربيِّ الأصيل، والحفاظ على الموروث الذي تتناقله الأجيال وتحرص عليه. ولإضفاء أكبر قدرٍ من الأهميَّة على المناسبة، فقد أُطلق على المناسبة اسم الملك المؤسِّس، وتُقام تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله-.
وتكتسب منطقة الصياهد مكانةً عظيمةً في قلوب كلِّ أبناء الشعبِ السعوديِّ، فإضافة إلى أنها كانت نقطةً لالتقاء قوافل الحجيج والتجارة المتجهة إلى مكة المكرمة، فقد كانت -أيضاً- نقطةً لتجمع جيوش الملك المؤسس -المغفور له- عبدالعزيز آل سعود في مسيرة توحيد البلاد، لذلك فقد ارتبطت لديهم بالفخر والانتماء لهذه البلاد العظيمة، واكتسبت المنطقة عمقاً تاريخياً، ودلالة وطنية.
ولا تقتصر فعاليَّات المهرجان على مجرَّد التَّنافس بين الإبل المشاركة، بل إنَّ هذه التَّظاهرة التُّراثيَّة الرَّائعة تحوَّلت إلى وجهةٍ سياحيَّةٍ واقتصاديَّةٍ وترفيهيَّةٍ منتعشة، لا سيَّما بعد تشييد «القرية السعوديَّة للإبل»، وهي قرية متكاملة دائمة مرتبطة بالمهرجان، الذي يحظى بحضور عشرات الآلاف من محبِّي هذه الرِّياضة، وأصبحت بمثابة منظومةٍ اقتصاديَّةٍ متكاملةٍ من حيث المزاد والمستلزمات والصِّناعات المتعلِّقة بالإبل، وتنمية عوائد المجتمع، والمهتمِّين بهذا التُّراث العربيِّ الأصيل.
وتنقسم القرية إلى منطقة ميدان المزاين، وتشتمل على الحظائر، ومنصَّةٍ رئيسةٍ تستوعب 450 شخصًا، ومدرجاتٍ لكبار الشخصيَّات تتَّسع لأكثر من 310 أشخاص، إضافةً إلى مدرجاتِ الزوَّار، ومنطقة المزاد ومنطقة الفرز، ومكاتب إداريَّة للتَّسجيل، ومسار للإبل بطول 5 كيلومترات لعبور الإبل من منطقة الفحص والفرز إلى ميدان المزاين. كما توجد في القرية مناطق للمخيَّمات والمجمَّعات، والشَّارع التِّجاري المُسمَّى بـ»شارع الدَّهناء»، والمتنزَّه الصحراويُّ، ومناطق الأنشطة والفعاليَّات الترفيهيَّة والثقافيَّة، ومنطقة لبيع المنتجات والمأكولات الشعبيَّة، إضافةً إلى الحِرف والصناعات اليدويَّة.
هذا الترتيب الدَّقيق، والاهتمام الكبير الذي تبديه القيادةُ الرشيدةُ على أعلى مستوياتها للإبل، والرِّياضات المرتبطة بها، تؤكِّد حرصها على التمسُّك بثوابت وتقاليد المجتمع السعوديِّ العريق، وعاداته القديمة، حيث عُرِفَت المملكةُ منذ قديم الزَّمان بوجود الإبل على أرضها، واعتزاز سكَّانِها بامتلاك هذه الحيوانات الغالية على قلوبهم، وإكرامها والعناية بها. كما جاء القرآنُ الكريمُ ليؤكِّد على صوابِ هذه العادة المتأصِّلة في نفوس العربِ، وحث النبي -صلَّى الله عليه وسلم- على الاهتمام بها.
ولتأكيد هذا الاهتمام تكفي الإشارة إلى حرص ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله- على المشاركة شخصيًّا في هذه الفعاليات، رغم تعاظم مسؤولياته وتعدد مشغولياته، حيث يُوجِّه الدعوات لقادة ومسؤولي الدول العربية لمتابعتها، وهو ما أكسبها زخمًا شعبيًّا كبيرًا. وهذه العناية تنبع من إيمان القيادة الحكيمة بأنَّ مَن لا يتمسَّك بذاتهِ ويعتز بهويته سيكون مصيره الذَّوبان في ثقافات الآخرين، وأنَّ مَن لا يتمتَّع بماضٍ عريقٍ لا يمكنه إيجاد حاضرٍ مُقنعٍ، أو مستقبلٍ مُشرقٍ.
لذلك يمكن القول: إنَّ المملكة التي تسعى بخطوات واسعة نحو تطوير واقعها وترقية شعبها، والأخذ بأسباب التقدُّم والحضارة، تحرصُ في الوقت ذاته على الاعتزاز بماضيها المُشرق، وتباهي به الأمم، وتفتخر بارتباطها التاريخيِّ بالإبل، لما يُمثِّله ذلك من معاني المروءةِ، وطيب الأصل، ومكارم الأخلاق. كما تحرص في الوقت ذاته على نقل هذا التُّراث للعالم أجمع، من خلال هذه الأنشطة الثقافيَّة والتراثيَّة، التي أصبحت شاهدًا يؤكِّد أنَّ السعوديَّة تعكسُ حضارتها للعالم بوسائلَ حضاريَّةٍ، وتكشف عن إسهامها الثقافيِّ والإنسانيِّ الفريدِ.