أكرمني الله بعشق رسالة التدريس، وتشرفت وسعدت بجهود طلبتي على مدى حوالى ثلث قرن من الزمان ببعض من أجمل دراسات تخطيط وتصميم المدن.. ومنذ حوالى عشرين سنة، بادرنا بدراسة سلسلة دراسات «مدن الحرب»، بهدف استكشاف تجارب الصراعات المسلحة على المباني، والبنية التحتية، والساحات المفتوحة، والتصميم الحضري، والاقتصاد، والمجتمع، بل وحتى التعاملات غير النظامية، علماً أن خلال الحروب تصبح الأنظمة، والقوانين ضمن الضحايا.. طبعاً فوق كل ذلك كانت قمة الأولويات هي الإنسان، فهو أساس العمران دائماً.. وسوف نعود إلى دراسات الطلاب بعد 92 كلمة من هذه النقاط.. فضلاً لاحظ أن عبر التاريخ، كانت المدن تشكل أهم أماكن الحماية للسكان عالميا.ً. من خلال اختيار موقعها، وتصميم أسوارها، وبوابتها، وتصميم شوارعها، وتوزيع كثافتها البنائية والسكانية.. وتغيرت كل هذه المفاهيم بحلول الحرب العالمية الثانية، عندما بدأ المتحاربون بتطبيق مفهوم الضرب الإستراتيجي الجوي للمدن.. بدأت ألمانيا بضرب الأهداف المدنية في بولندا، وفرنسا، وبلجيكا، ثم إنجلترا.. وردَّت عليها بريطانيا بضرب مدن ألمانيا، وانضمت الولايات المتحدة إلى المنظومة المدمرة.. ثم لحقتها اليابان بضرب مجموعة مدن في شرق آسيا، لتشمل مدناً صينية وماليزية، وسنغافورية.. وانتهت الحرب العالمية بضرب المدن اليابانية بالقنابل الحارقة، ثم مدينتي «هيروشيما» و»ناجازاكي» في اليابان بقنبلتين ذريتين.
درس فريقنا في جامعة الملك عبدالعزيز بجدة مجموعة مدن إسلامية وعربية تميَّزت بالصمود لدمار الحروب في التاريخ الحديث.. بدأنا بمدن قناة السويس في مصر الشقيقة، علماً بأن العديد منها شهدت صراعات تاريخية كانت موجهة ضد المدنيين منذ عام 1956 خلال العدوان الثلاثي، ثم خلال سنوات حرب الاستنزاف في الفترة 1967 إلى 1970.. وتحديداً كانت مدن السويس، والإسماعيلية، وبورسعيد.. وانتقلنا إلى بيروت الجميلة وصمودها ضد قسوة الحرب الأهلية.. وبعدها انتقلنا للكويت الشقيقة والاحتلال عام 1990.. ثم كارثة بغداد الغالية.. كل من تلك المدن العزيزة تم دراستها من مجموعة مختلفة من طلبتي عبر فترة خمس سنوات.. وكلهم وضعوا جهودهم الصادقة التي تعدت متطلبات الجامعة الدراسية.. كانوا وبدون أي مبالغة يعملون؛ وكأنهم بداخل شوارع وساحات ومساكن تلك المدن وسط ضرب النار.. وكانت جميع مدن الحرب تُمثِّل روعة صمود وشجاعة المدن المختلفة، وكان البشر دائماً قبل الحجر، فمفهوم الشجاعة والصمود يتطلب ثقافات خاصة تنتشر بين سكان المدينة، للتصدي لقسوة الحروب.. ولا يخفى على الجميع أن جميع مدن فلسطين تعرضت، - ولا تزال تتعرض- لأطول فترة دمار بين كل مدن الحرب.. درسنا القدس الشريف وغزة بعمق، وبالرغم من الاختلافات الكثيرة في الخصائص، إلا أن العنصر المشترك بينهما كان الشجاعة والصمود.. ونشهد اليوم في غزة الاستمرار لأحد أهم الأمثلة التاريخية لصمود وشجاعة المدن في التصدي لقوى الدمار.
* أمنيــــة:
أتقدم بشكري وتقديري لطلبتي على أعمالهم المتألقة، ولا أستطيع أن أذكر جميع أسمائهم لكثرتها، ما شاء الله ولا قوة إلا بالله، ولكن أخص بالذكر م. علاء الثقفي، ود. عبدالله ضيف الله، ود. سامر باعيسى، وم. عمار قطب، ود. عبدالله بنجر، ود. إبراهيم الطاسان، ود. حاتم عوني، وم. بكر العمودي، وم. عبود القحطاني، وم. باسم الشريف، وم. منذر الطلحي، وم. محمد عمر نور، وم. خالد العطوي.. وزميلي أ.د. وحيد سالم.. وأتمنى أن نتذكر أن الأبطال الحقيقيين في مآسي الحروب هم الأهالي، ولهم كل الحب، والتقدير، والاحترام، والله يصبرهم ويرفع عنهم الأذى والظلم، وهو من وراء القصد.