يُرشدنا إلى الإجابة عن هذا السُّؤال؛ المفكِّرُ اليهوديُّ «إسرائيل شاحاك» في كتابه: «الدِّيانة اليهوديَّة وتاريخ اليهود» وطأة 3000 عام، الذي كتبه بعد قراءته للتلمود، فيقول: «إنَّ المعتقدات اليهوديَّة هي التي تُحرِّك السياسات في إسرائيل».. وقال أيضًا: «إنَّ تجاهل اليهوديَّة، وهذه المعتقدات والأيدلوجيَّة اليهوديَّة تجعل هذه السياسات مبهمة أمام المراقبين الخارجيِّين، الذين لا يعرفون عن هذه المعتقدات إلَّا التبريرات الفجَّة». وقال: «إنَّ المتديِّنين يؤمنُونَ بالتوسُّع الإقليميِّ، ويطلقُونَ عليه الحدود التوراتيَّة، وغير المتديِّنين يطلقُونَ عليه الحدود التاريخيَّة، أو حدود الحقِّ التاريخيِّ».
وكشف «شاحاك» المخطِّطُ الصهيونيُّ ببيانه أنَّ دور إسرائيل وظيفيٌّ في المنطقة، ويشمل توسُّعها الإقليميُّ في المنطقة الآتي: المنطقة الاقتصاديَّة لقناة السويس، والسَّاحل الشمالي (منطقة الغاز) حتَّى ضواحي القاهرة في الجنوب، وسيناء كلها، والأردن، ولبنان، وسوريا وتركيا، ودول أخرى.
وقال: «لا يوجد يهوديٌّ لا يؤمن بالتوسُّع الإقليميِّ؛ لأنَّ الدَّولة اليهوديَّة تأسَّست على قاعدتَيْن أساسيَّتَيْن: القوَّة والخِداع، (الذي لا نستطيعُ أخذُهُ بالحربِ، نأخذُهُ بالحلِّ السلميِّ).. أمَّا المتديِّنُون فيرونَ أنَّ التوسَّع ضروريٌّ، والحرب المقدَّسة ضروريَّة، وعدم قيام إسرائيل بحرب مقدَّسة يُعدُّ خطيئةً قوميَّةً، وأنَّ ردَّ سيناء إلى مصرَ إثمٌ قوميٌّ، وهناك قلَّة قليلة ممَّن يعارضُونَ الدَّولة اليهوديَّة، يعارضُونَ التوسُّع الإقليميَّ».
وهذا يفسِّر لنا ما جاء في كلمة «نتنياهو» رئيس الوزراء الإسرائيليِّ بحثًا عن حججٍ تسندُ روايته لمواصلة حربِهِ الإباديَّة على الفلسطينيِّين في قطاع غزَّة، باستدعائه أساطيرَ من العهد القديم لمساندته لتأجيج المشاعر الدينيَّة عند الجمهور الإسرائيليِّ، وذلك في خطابٍ متلفزٍ يوم الأربعاء 25 أكتوبر الماضي، إذ استدعى نتنياهو «نبوءة إشعياء» في إطار سعيه لمواصلةِ حربِ الإبادةِ على قطاع غزَّة، وقال: «نحنُ أبناءُ النُّورِ، بينما هم أبناءُ الظَّلام، وسينتصرُ النُّورُ على الظَّلامِ».
وأضاف نتنياهو: «سنحقِّقُ نبوءةَ إشعياء، لن تسمعُوا بعدَ الآنَ عن الخرابِ في أرضِكم، سنكونُ سببًا في تكريم شعبكم، سنقاتلُ معًا وسنحقِّقُ النَّصرَ».
كما استدعى نصًّا دينيًّا آخرَ، حين قال: «يجبُ أنْ تتذكَّروا ما فعله العماليقُ بكم، كما يقولُ لنا كتابُنا المقدَّس، ونحن نتذكَّر ذلك بالفعل، لذلك نقاتلُ الآن في غزَّة وما حولها، وفي جميع المناطق الأُخْرَى في إسرائيل بجنودنا الشُّجعان وفرقنا المسلَّحة».
وقبل أنْ نوضِّح ماذا يقصد نتنياهو بتصريحه هذا، لابُدَّ من توضيح حقيقةٍ هامَّةٍ غابت عن الكثيرين، وهي أنَّ نتنياهو من أبٍ يهوديٍّ بولنديِّ الأصلِ، من اليهود الإشكناز، الذين موطنهم بولندا، وبيلاروسيا، وروسيا، وأوكرانيا، اعتنقُوا الدِّيانة اليهوديَّة بالتبعيَّة، عندما اعتنقها حاكمُ الخزر وعِليةُ قومِهِ عام 740م، ويعتقد العديدُ من الأكاديميِّين أنَّ الخزرَ التركَ اليهودَ هم أجدادُ اليهودِ الرُّوس، وكذلك الذين في أوروبا الشرقيَّة، ويشكِّل السكَّان المنحدرُونَ من أصلٍ إشكنازيٍّ حوالى 47.5٪ من اليهود الإسرائيليِّين، ووفقًا للملخَّص الإحصائيِّ الإسرائيليِّ لعام 2009، فإنَّ 50.2٪ من اليهود الإسرائيليِّين من أصلٍ مزراحيٍّ وسفارديم (يهود الشَّرق الأوسط وشمال إفريقيا)، وسفارديم وسفارد اسم لمدينة في آسيا الصُّغرى، وقد كان السفارديم أصلًاً في إسبانيا والبرتغال، مقابل الإشكناز الذين كانوا يعيشُونَ في ألمانيا وفرنسا، ومعظم أوروبا، (ومعظمهم من شرق أوروبا الشرقيَّة)، ويهود الفلاشا (يهود إثيوبيا)، ويهود إسرائيل بمَن فيهم يهود العالم، لا ينتمُونَ إلى يهود بني إسرائيل في معظمهم؛ إذْ لم يبقَ من يهود بني إسرائيل سوى 5% وفقًا للدِّراسات الأنثوبولوجيَّة لعلماء يهود وبريطانيِّين، ووفقًا لتاريخهم، فمعروف أنَّ بني يعقوب -عليه السلام- اثنا عشر سبطًا، وفي القرن السَّابع قبل الميلاد تعرَّض عشرة أسباط من أولاد يعقوب -عليه السلام- للسبي الآشوريِّ، ونُقلوا إلى نينوى شمال العراق، وانصهرُوا مع أهلها، وذابُوا فيها، ولم يعودُوا.
وفي القرن الخامس قبل الميلاد، نبوخذ نصر البابلي سبى سبيط يهوذا، وبنيامين في بابل، ويعد العهد القديم السبي البابلي «نعمة»؛ بدليل أنه عندما قال لهم قورش الفارسي: عودوا.. رفضوا، وبناءً على ذلك لم يبقَ أحد من بني إسرائيل؛ إذ ذابوا في شعوب وأمم أخرى، فلا علاقة لنتنياهو واليهود الإسرائيليين بنبوءة إشعياء التي تخص بني إسرائيل فقط، حتى لو سلمنا جدلا بصحتها، وإنْ كانت مجرَّد أسطورة صاغها تلامذة إشعياء بما تمتلئ دواخلهم بكراهيَّة العرب والفلسطينيِّين، وبحبِّ القتلِ والدَّمار الذي يمثِّلهم اليهودُ الإشكناز ذوو الموقف الكاره للفلسطينيِّين وقضيَّته، وعادةً ما يدعو حاخاماتهم إلى نقل الفلسطينيِّين إلى دولٍ بعيدة ونائية، وكان كبير حاخامات اليهود الإشكناز يونا متزغر قد دعا بريطانيا، والاتحاد الأوروبيَّ، والولايات المتَّحدة إلى المساعدة في إنشاء دولة فلسطينيَّة في صحراء سيناء المصريَّة، ونقل سكَّان غزَّة إليها، وهذا ما يصرُّ عليه نتنياهو في حربه الآن على غزَّة.
وقد ذكر «إسرائيل شاحاك» في كتابه: أنَّه اقتُرِحَ في عام 1914 إبادة الفلسطينيِّين، كما جاء في سفر يشوع، وآخر قال يهجَّرُوا إلى العراق، وفي عام 1944م وافق حزبُ العمال البريطاني على ترحيل الفلسطينيِّين من فلسطين. والآن لنتوقَّف لتفسير مقولة «نتنياهو»، وهذا ما سأبحثه في الجزء الثَّاني من هذه المقالة.