رغم نجاح الأجهزة المختصة في حسم كثير من المظاهر السالبة؛ التي تُشوّه المظهر العام للمدن السعودية، إلا أن ظاهرة التسوّل لا تزال تُمثّل أكبر هاجس لما تنطوي عليه من مخاطر متعدّدة؛ لا تقتصر فقط على تشويه المظهر الحضاري، بل تصل إلى مرحلة تهديد الأمن، وتشكيل خطورة هائلة على بلادنا، حسب ما ظلت تُكرّره السلطات الأمنية كثيراً خلال الفترة الماضية، حيث اتضح من خلال التحقيقات التي أجرتها، أن نسبة كبيرة من الأموال التي تُمنَح لهؤلاء - الذين يتظاهرون بأنهم «مساكين وفقراء»، ويستعطفون المارة - كانت هي مصدر التمويل الأساسي لعدد من الجرائم الإرهابية التي استهدفت المجتمع.
ورغم أن كافة الجهات المعنيّة تبذل جهوداً مُقدّرة للقضاء على هذه الظاهرة المزعجة، إلا أن تلك الجهود تصطدم بإصرار البعض على التعامل مع المتسولين، ومنحهم الأموال بحسن نية، ذلك أن غالبية السعوديين يتّصفون بطيبة القلب والتعاطف مع الضعفاء، والفئات الأكثر احتياجاً، ولا ضرر في ذلك شريطة أن يتم وفق القنوات الرسمية التي أقرتها الدولة، والمنصّات التي خصّصتها لجمع التبرعات والصدقات، وتوزيعها على المحتاجين.
وبعد أن ضيّقت الأجهزة المختصة الخناق على ظاهرة التسول التقليدي، لجأت تلك العصابات إلى أسلوب جديد هو: التسوّل الإلكتروني، الذي تزايد خلال الفترة الأخيرة، وبات ملاحظاً انتشاره بصورةٍ واضحة، ليس في المملكة فحسب، بل في كثير من دول العالم، باستغلال وسائل التقنية الحديثة، التي أصبحت هي الأساس في كافة عمليات التواصل الإنساني.
وتتمثّل تلك الظاهرة في لجوء المحتالين للتسوّل عبر وسائط التواصل الاجتماعي، والعناوين البريدية، وذلك لأسباب متعدّدة، فهي وسيلة منخفضة التكاليف، لا تتطلب عناء التنقّل بين المكاتب والمنازل، والوقوف في محطات الوقود، أو إشارات المرور، إضافةً إلى تعديل صورهم وأشكالهم بواسطة الفوتوشوب وغيره من البرامج لإضافة العاهات، أو آثار المرض، ليبدو أكثر قدرة على استدرار العطف والشفقة.
وللأسف، فإن الغالبية العظمى من الذين يلجأون للتسول عبر وسائل التواصل ومواقع الإنترنت لاستدرار العطف والتكسّب، هم من الدجالين والمحتالين، الذين ثبت في كثير من الحالات كذبهم، وأنهم أعضاء في عصابات منظّمة تمنحهم مقابلاً مالياً نظير القيام بذلك الدور.
وللتصدي لهذه الظاهرة، قامت السلطات السعودية بسن قانون لمحاربة التسوّل، يحتوي على العديد من المواد لتحجيم تلك الممارسات المرفوضة، كما اهتم منذ البداية بتعريف المتسوّل على أنه: «من يستجدي مال غيره دون مقابل، عبر منصات التواصل أو في الواقع»، كما وضعت عقوبة مُغلَّظة بحق المتجاوزين، تصل إلى السجن 6 أشهر، أو الغرامة 50 ألف ريال للأفراد، فيما تضاعف بالنسبة للجماعات المنظّمة. كما اهتم القانون بإنشاء قاعدة بيانات للمتسوّلين، بالاشتراك مع وزارة الداخلية، وتسجيل كل حالة يتم ضبطها، وحصر الحالات التي تحصل على مساعدات عينية ومادية بطريقة نظامية، إضافة إلى دراسة الحالات الاجتماعية والنفسية والاقتصادية للمحتاجين، لتقديم الخدمات إليهم بحسب الاحتياج.
المؤسف جداً والمثير للاستغراب، أنه لا زال هناك من يتعاطف مع هؤلاء الذين يتخذون من الفضاء الإسفيري مجالاً للتسول، وهو أمر مثير للعجب، فإذا كان هناك من يتعاطفون مع أصحاب العاهات الذين يشاهدونهم أمامهم، فما هو المبرر الذي يدفع الآخرين للتعاطف مع أشخاص لم يروهم إلا في العالم الافتراضي، والفضاء الرقمي؟.
شخصياً، لا أجد لهؤلاء عذراً أو مبرراً لذلك الفعل؛ سوى الاستهتار وعدم تقدير المسؤولية، وفي مثل هذه الحالات لا يعتبر حسن النية مبرراً أو عذراً؛ له وجاهة قانونية، لأنه قد يتسبب في حدوث أعمال مخالفة للقانون، أو وصول الأموال للجهات المتطرّفة التي ترتكب أعمالاً إرهابية، يروح ضحيتها أبرياء لا ذنب لهم. علينا جميعاً التحلّي بالمسؤولية، وإعلاء الشأن الوطني فوق كل اعتبار، وأن لا ننجرف وراء عواطفنا بغير تبصّر، وأن نكون أكثر واقعية وعقلانية، فهذه البلاد مستهدفة من دوائر شريرة متعدّدة، لا تريد لها أن تنعم بالأمن، أو أن تواصل السير في طريق التنمية والرخاء، وواجبنا جميعاً أن نتصدَّى لها ونُحبط مخططاتها، ولن يتحقق ذلك إلا بالتقيُّد بالأنظمة والتوجيهات، والمزيد من التلاحم مع قيادتنا الرشيدة، أعزها الله.