مذابحُ إسرائيل في غزَّة ليست الوحيدة، فهناك سلسلةٌ من المذابح قامت بها المنظَّمات اليهوديَّة الصهيونيَّة المسلَّحة قبل إعلان قيام إسرائيل 1948، فمذابحها بدأت في الثلاثينيَّات من القرن الماضي، وإنْ بدأنا بمذابح 1947م، وما تلاها، أي قبل إعلان دولة إسرائيل، فنجدها بلغت أكثر من (30) مذبحةً. وقد بلغ مجموع شهدائها أكثر من (4000) شهيد، وألوف الجرحى، ولم تتوقَّف المذابح، إذ استمرَّت في الضفَّة الغربيَّة، مع إعلانها خمسة حروب على غزَّة منذُ انسحابها منها عام 2005، آخرها حربها الحاليَّة التي ارتكبت فيها أكثر من ألفي مذبحةٍ، استشهد فيها حوالى 21500 شهيد، وأكثر من 55000 جريحٍ، و7 آلاف مفقود. والهدف من هذه المذابح، إبادة الفلسطينيِّين، وإحلال مستوطنين يهود مكانهم.
ومن المذابح التي استوقفتنِي مذبحتان ارتكبتهما منظَّمتان إرهابيَّتان يهوديَّتان صهيونيَّتان قبل قيام دولة إسرائيل وهما:
1- مذبحة باب العامود بمدينة القُدس، التي ارتكبتها عصابات الأرجون الصهيونيَّة في 29 ديسمبر 1947، بعد إلقاء برميل من المتفجِّرات، أدَّى إلى استشهاد 14 فلسطينيًّا، وإصابة 27 آخرين، وقنبلة تسبَّبت في استشهاد 11 آخرين.
2- مذبحة دير ياسين، التي تتَّفق في أهدافها مع خُطط الحرب على غزَّة 2023، والفرق بين المذبحتين، أنَّ دير ياسين حدثت قبل قيام دولة إسرائيل بشهرٍ وخمسة أيَّام، في 9 إبريل 1948، وحرب إسرائيل على غزَّة 2023 قامت بعد مرور 75 عامًا على قيام دولة إسرائيل. والذي نفَّذ مذبحة دير ياسين هما: «الأرجون»، (التي كان يتزعَّمها مناحم بيجين، رئيس وزراء إسرائيل فيما بعد)، و»شتيرن ليحي» (التي كان يترأسها إسحق شامير، الذي خلف بيجين في رئاسة الوزارة). وتمَّ الهجوم باتِّفاق مُسبق مع الهاجاناة. بينما حرب غزَّة أشرف عليها مجلس حرب إسرائيلي برعايةٍ ودعمٍ أمريكيَّين، ونفَّذها الجيشُ الإسرائيليُّ، وقد فُتحت له مخازن السِّلاح الأمريكيَّة السريَّة المخزَّنة في فلسطين المحتلَّة؛ ليغرف منها ما يشاء، وفي دير ياسين كانت بريطانيا هي الدَّاعمة للإسرائيليِّين.
ودير ياسين، قريةٌ صغيرةٌ تقع على بُعد بضعة كيلومترات من القُدس، حيث كانت -آنذاك- تتعرَّض لضربات متلاحقة، وكان العربُ -بزعامة البطلِ الفلسطينيِّ عبدالقادر الحسيني- يُحرزُون الانتصارات في مواقعهم. لذلك كان اليهودُ في حاجة إلى انتصار -حسب قولهم- «من أجل كسرِ الرُّوح المعنويَّة لدى العرب، ورفع الرُّوح المعنويَّة لدى اليهود»، فكانت دير ياسين فريسةً سهلةً لقوَّات الأرجون. وكان يقطن القرية العربيَّة الصَّغيرة 400 شخصٍ، يتعاملُون تجاريًّا مع المستوطنات المجاورة، ولا يملكُونَ إلَّا أسلحةً قديمةً.. وفي فجر 9 إبريل 1948 دخلت قوات الأرجون من شرق القرية وجنوبها، ودخلت قوات شتيرن من الشِّمال، ليحاصروا القرية من كل جانب ما عدا الطريق الغربي، حتَّى يفاجئِوا السكَّان وهم نائمُون. وقد قوبل الهجوم بالمقاومة في بادئ الأمر، وهو ما أدَّى إلى مصرع 4، وجرح 40 من المهاجمين الصَّهاينة. ولمواجهة صمود أهل القرية، استعان المهاجمُونَ بدعم من قوات البالماخ في أحد المعسكرات، بالقرب من القُدس، حيث قامت بقصف القرية بمدافع الهاون، واستولُوا على القرية عن طريق تفجيرها بيتًا بيتًا. وبعد أنْ انتهت المتفجِّرات، قاموا بإخلاء المكان من آخر عناصر المقاومة، عن طريق القنابل والمدافع الرشَّاشة، فكانوا يُطلقُون النِّيران على كلِّ مَن يتحرَّك داخل المنزل، وأوقفوا العشرات من أهل القرية إلى الحوائط، وأطلقوا النَّار عليهم. واستمرَّت أعمالُ القتل على مدى يومين. وقامت القوات الصهيونيَّة بعمليَّات تشويه ساديَّة، واقتيد 25 من الرِّجال الأحياء في حافلات، ليطوفُوا بهم داخل القُدس طواف النَّصر، ثمَّ تمَّ إعدامهم رميًا بالرِّصاص. ومنعت المنظَّمات العسكريَّة الصهيونيَّة مبعوث الصَّليب الأحمر (جاك دي رينييه) من دخول القرية لأكثر من يوم. بينما قام أفراد الهاجاناة الذين احتلوا القرية بجمع جثث أُخْرى وفجَّرُوها، لتضليل مندوبي الهيئات الدوليَّة، وللإيحاء بأنَّ الضحايا لقُوا حتفهم خلال صدامات مسلَّحة. وقال بيجين في كتابه المعنون «الثورة»: «إنَّ مذبحة دير ياسين أسهمت مع غيرها من المجازر في تفريغ البلاد من 650 ألف عربيٍّ». وأضاف: «لولا دير ياسين لما قامت إسرائيل».
الشاهد، أن مذبحة دير ياسين والمذابح المماثلة لم تكن مجرد حوادث فردية، أو استثنائية طائشة، بل كانت جزءاً أصيلا من نمط ثابت ومتواتر ومتصل، لتفريغ فلسطين من سكانها وإحلال المستوطنين محلهم، وتثبيت دعائم الدولة الصهيونية، وفرض واقع جديد في فلسطين يستبعد العناصر الأخرى غير اليهودية المكونة لهويتها وتاريخها.
فأحداث دير ياسين نجدها تتكرَّر بأسلوبها وأهدافها في حرب غزَّة 2023، وإنْ كانت الأخيرة أكثر ضراوةً وبشاعةً وفتكًا، وإنْ كان الهدف من مذبحة دير ياسين إبادة سكَّانها عن بكرة أبيهم، فالهدف من الإبادة الجماعيَّة للغزَّاويِّين البالغ عددهم مليونين ومائتي ألف نسمة، بقتلهم وهدم بيوتهم على ساكنيها، تهجيرهم قسريًّا إلى سيناء عن طريق إرهابهم، لتصفية القضية الفلسطينيَّة. ومن هنا نجد أنَّ مبرِّرات إسرائيل في استمرار هذه الحرب الوحشيَّة هو القضاء على حماس، مبرِّرات واهية، فدير ياسين عام 1947م لم تكن حماس في الوجود.