هناك موقفان في السِّيرة النبويَّة هُما من أشهر المواقف التي تتعلَّق برسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- مع الأنصار، وتنهمر فيهما الدُّموع عند ذكرهما، وتتجلَّى فيهما كلُّ معاني الحبِّ وعمق الصِلَةِ بين رسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- وبين الأنصار، أحدهما حدث قريبًا من مسجد قباء، والآخر بعيدًا عنه.
قبل أنَّ أتطرَّق للموقفين أستسمحكم أنْ أحدِّثكم عن علاقتي بمسجد قباء في الزَّمن الجميل والقريب، عندما كانت مساحته محدودةً، وقتها كنَّا في المرحلة المتوسِّطة والثَّانويَّة، حيث كنَّا نذاكر دروسنا في المسجد النبويِّ الشَّريف، وتحديدًا في الرَّوضة الشَّريفة، أو في الحصوةِ، أو في الرُّواق بين الحصوتَين، أو عند السَّاعة العربيَّة قريبًا من باب الرَّحمة، وكنَّا نقصدُ مسجد قباء أحيانًا بعد المذاكرة للصَّلاة فيه ركعتين؛ لنحقِّق من ذلك السُّنَّة النبويَّة، حيث ثبتَ أنَّ النبيَّ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- كان يأتيِهِ راكبًا، أو ماشيًا، كما يتحقَّق عن الصَّلاة فيه أجرُ عُمرةٍ، كما ورد بذلك الحديث، وهذا إحدى فضائل المدينة، وأحيانًا أقصده أنا ووالدتِي -رحمها الله- لنُصلِّي فيه، ويومها لم تكن لدينا سيَّارة، فكنَّا نقصد المناخة، حيث هناك اوتوبيسات صغيرة، تُعرف باسم «الأنيسة»، فأذهب بصحبة والدتي لنصلِّي ركعتين في مسجد قباء، ونكسب أجرَ عُمرةٍ، وكانت -رحمها الله- تعتبر ذلك رحلةً روحانيَّةً لها، مهتدية بذلك بسنَّة نبينا محمد -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-.
أعودُ لذكر الموقفين، فأوَّلهما استقبال الأنصار، واستضافتهم لرسول الله -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- عند مَقدِمِه من مكَّة بالحبِّ والفرحِ والأهازيجِ القلبيَّة، وقد أقبل إليهم رسولُ الله بجسده وشخصه وقلبه وروحه، والكل يتشوَّق الطَّلعة البهيَّة، والنُّور المتوهِّج، الذي جاء ليضيء به كلَّ جوانب الحياة في المدينة المنوَّرة، والذي وصفه أحد الصَّحابة من الأنصار بقوله: «عندمَا قدِمَ رسولُ اللهِ إلى المدينةِ أضاءَ منهَا كلَّ شيءٍ».
أمَّا الموقف الثَّاني للأنصار، فهو ما ورد يوم حُنين، عندما وزَّع رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- الغنائمَ، ولمْ يُعطِ الأنصارَ منها شيئًا، فأخذَ الأنصارُ على خاطرِهِم، فأقبلَ إليهِم رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- يوضِّح لهم حكمتَهُ وقصدَهُ في ذلك، ثُمَّ قال: «أَمَا ترضُونَ أنْ يذهبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعيرِ، وتذهبُونَ أنتُم برسولِ اللهِ إلى رحالِكُم، لولَا الهجرةُ لكنتُ امرءًا من الأنصار، ولو سَلَكَ النَّاسُ واديًا وشعبًا، لسلكتُ وادي الأنصار وشعبها، الأنصارُ شعارٌ والنَّاسُ دثارٌ، اللهمَّ ارحمِ الأنصارَ، وأبناءَ الأنصارِ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ»، وبعد سماع الصَّحابة هذا الخطابِ العاطفيِّ الحميمِ، بكُوا -رضي اللهُ عنهم- حتَّى أخضلُوا لِحَاهم، وكانت لحظات مفعمة بالحبِّ تتقاطر منها القيمة الفعليَّة للأنصار في قلبِ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم-.
إن قباء مستقبلا -مسجداً ومكاناً- وفق التخطيط والتطوير الذي شهدناه، واعلن عنه سيكون درة معمارية في نسخته الحديثة في عهد الخير والنماء، عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وبالإضافة إلى كونه مخصصاً من بين مساجد الأرض كلها أن من يأتيه ويصلي فيه ركعتين تحسب له أجر عمرة، سيكون عبارة عن مساحة جذب سياحيَّة لقاصديه والمصلِّين؛ لما يتمتَّع به من جوٍّ مُحاطٍ بالبساتين والنَّخيل، كما أنشدَ ذلك الفنَّان غازي علي أيَّام الزَّمن الجميل فقال:
في ربوعِ المدينةِ وفي وادِي قِباء
أمجادنا تُنادي أهلًا ومرحبًا