قبل أشهر قريبةٍ، كنتُ أصلِّي في مسجد صلاة الجمعة، وبعد انتهاء الصَّلاة يمَّمتُ وجهي للخروج من المسجد، فإذا بصوتٍ ينادي يا دكتور صالح، فالتفتُ فإذا بشخصٍ يجلسُ على كرسيٍّ ويقفُ بجواره اثنان من أبنائه، هو أستاذنا الفاضل الدكتور محمد عمر جمجوم «العميدُ والأمينُ» العميدُ الأوَّل، والمؤسِّسُ لكليَّة الهندسة في جامعة الملك عبدالعزيز، فسلَّمتُ عليه بحرارةٍ؛ لكوني لمْ أرهُ من فترةٍ طويلةٍ، فعادت بي صورته، ورجع بي صوته إلى سنواتٍ مضت في الجامعة، عندما كان أمينًا عامًّا للجامعة، وقبلها كانَ عميدًا لكليَّة الهندسة.
لقد أعطى كل وقته وحياته لكلية الهندسة، حيث بدأ تأسيسها من الصفر، وما رأيت أحداً يعرفه من ذلك الجيل من أساتذة كلية الهندسة -سعوديين أو غير سعوديين- إلا ويثني عليه وعلى إدارته وأمانته وعطائه.
وشخصيًّا كان لي معه قصَّةٌ في الابتعاث، عندما كان أمينًا عامًّا للجامعة، وكنتُ حينها انتظرُ قرار ابتعاثي، لكنَّه أوقف ذلك، فذهبتُ إليه وراجعته، فقال لي: المطلوب إحضار قبول من أمريكا، وليس من بريطانيا، فقلت له: لم يبقَ من وقتِ الابتعاث إلَّا وقتٌ يسيرٌ، وبعد إلحاحٍ وإصرارٍ وافقَ على الطَّلب للابتعاث لجامعة في بريطانيا.
لاشكَّ أنَّه لا تُذكر كليَّة الهندسة إلَّا ويُذكر الدكتور محمد عمر جمجوم، الذي استغرق تأسيسها منه سنواتٍ، حيث أُنيطت به مسؤوليَّات الإنشاء والإدارة، والنَّواحي الأكاديميَّة، وكانت فترته للعمادة ست سنواتٍ، ثُمَّ عُيِّنَ بعد ذلك أمينًا عامًّا للجامعة، فكان نعم الأمين، لذلك فإنَّ العديد من الوزراء، وأمناء المدن، ورؤساء الجامعات، وعمداء الكليَّات، والمهندسين السعوديِّين كانوا ممَّن حظوا بالدِّراسة في كليَّة الهندسة، عندما كان عميدًا لها، وهو يُعتبر مؤسِّسًا للعديدِ من المراكز داخل الجامعة، مثل مركز اللُّغة الإنجليزيَّة، ومركز التَّعليم الجامعيِّ، وغيرهما ممَّا لا يحضرنِي من الكيانات داخل الحامعة.
كان -رحمه الله- إنسانًا مثقَّفًا، وداعيةً مؤدَّبًا، كلُّ مَن عرفه أحبَّه، يذكِّرني حبُّه لدينِهِ وقيامه على خدمة قضايا المسلمين بأختِهِ الدكتورة سميرة -رحمها الله-.
رحم اللهُ أستاذَنَا الفاضل الإنسانَ الرَّحيمَ، ذا القلبِ الكبيرِ، وصاحبَ الخُلق الرَّفيع الدكتور محمد عمر جمجوم، الذي جاء في وصفه أنَّه: عميقُ الفكرةِ، عفُّ اللِّسانِ، رؤوفُ الجنانِ، قريبٌ من الصَّغير والكبير، جمُّ التَّواضع، حريصٌ على خدمة دينِهِ ووطنِهِ، رحمه اللهُ رحمةً واسعةً، وعزاؤنَا فيه حبُّ النَّاسِ له، وعملُه الصَّالح الذي كان يقومُ به وعُرف عنه، ثمَّ العزاءُ لأهلِهِ وأبنائه جميعًا، فاللَّهُمَّ أحسِنْ وفادتَهُ، وأكرمْ نزلَهُ، واجعلهُ في مقعدِ صدقٍ عندكَ، ويرحمنا اللهُ إذا صرنَا إلى ما صارَ إليه. «إنَّا لِلِه وَإِنَّا إِليهِ رَاجِعُونَ»