من النعمِ العظيمةِ التي وهبها اللهُ تعالى للإنسانِ، هي العقلُ بما يحتويه من أسرارٍ، تجعل هذا الإنسان يتميَّز عن بقيَّة المخلوقاتِ، بالقدرة على التحكُّم والتدبُّر والتفكُّر في مسار الحياة، وجعل الإنسان مكلَّفًا بالعبادة، وإعمار الأرض، وسبر أغوار الكون، واكتشاف نواميسِهِ وأسرارِهِ. وقد أثبتت الدِّراسات العلميَّة أنَّ العباقرة من البشر لم يستخدمُوا من مكنون هذا العقل سوى 10٪ فقط، فكيف به لو استخدم نسبةً أكثر؟
وفي كتاب الله تعالى حثَّنا الربُّ -سبحانه- في الكثير من الآيات القرآنيَّة على إشغال هذا العقل، والتدبُّر، والحكمة في كافَّة عباداتنا، ومعاملاتنا الحياتيَّة في الكثير من الآيات كقوله تعالى: (إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ)، وقوله تعالى: (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ).
كما نهانا سبحانه عن التعجُّل والتسرُّع والتخبُّط في سائر الأمور الحياتيَّة، فقال تعالى: (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ)، وقوله تعالى: (لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ)، وقال تعالى: (وَمَنْ یَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاۤؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِیهَا وَغَضِبَ ٱللهُ عَلَیْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِمیًا).
وهنا شبَّه الله -سبحانه وتعالى- مَن لمْ يلتزم بإحكام العقل من تفكير وتدبُّر وتبصُّر بشرِّ الدَّواب كونها تعيش حياة العبث والفوضى، وتُسيَّر من قِبل الغير بيسر وسهولة.
وبما أن مجتمعاتنا العربية، التي يتحدث بلسانها القرآن العظيم ومن أرسل منها خاتم الأنبياء وسيد المرسلينَ، كان من المستوجب أن تكون الأكثر التزاماً بتلك التعليمات الربانية، لكن الواقع الذي تعيشه يقول، إنها الأكثر بعداً عن ذلكَ، ولم تلتزم بتلك التعليمات الكريمة، بل نرى مسمى شر الدواب ينطبق على كثير من سلوكاتهم ومعاملاتهم، وحتَّى نكون منصفين في ذلك الحُكم، سوف نورد بعضَ الأمثلة لتلك الممارسات، منها على سبيل المثال لا الحصر:
- الدَّرعمة دونَ استخدامِ العقل خلف التُّراث المكذوب على رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- واتِّخاذه نبراسًا لهم، حتَّى لو كان ذلكَ يتعارض مع كتابِ الله تعالى.
- ما نشاهدُهُ من تلك الاندفاعاتِ خلفَ بعض المتمسلِمين، ومدَّعي الفتوى، أو المضلِّلين من فوق المنابر، أو بوسائل التَّواصل الاجتماعيِّ؛ بدعوى الجهادِ، ومحاربةِ الكفَّار دونَ تعقل أو إدراك للأسباب والنواتج المترتبة على ذلك ودون تبصُّر حقيقيٍّ لأحكامِ الجهاد وضوابطه.
- وفي جانبٍ آخر نجدُ مثل تلك الاندفاعاتِ الهوجاء نحو ممارسةِ التَّصنيف المذهبيِّ المتنامِي بدرجةٍ لافتةٍ؛ حتَّى بلغ بهم الأمرُ إلى ممارسة التَّكفير، والتَّفجير، والقتلِ الجماعيِّ، وكل ذلك يحدثُ تحت مظلَّة دعوى باطلةٍ لرجلِ دينٍ، أو كيدِ عدوٍّ حتَّى يُخيَّل للمتلقِّي أنَّ هنالك حربًا بين مذهبٍ وآخرَ، أو طائفةٍ وأُخْرَى.
ولعلِّي بعد تلك الأمثلةِ المنتقاةِ من واقع الحال الذي نعيشه أقولُ: إنَّ ذلكَ يؤكِّدُ على أنَّ الكثيرَ من مجتمعاتِنَا العربيَّة قد سلَّمتْ عقولَهَا للغيرِ، وللهوَى، وأهملتْ تلك النعمةَ العظيمةَ التي منحها إيَّاها ربُّ العالمِينَ، فأصبحُوا في سلوكاتِهم ومعاملاتِهم كالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيٍلًا.. واللهُ من وراءِ القصدِ.