أعتز وأفتخر بأن بعضاً من أعز أصدقائي هم من أصحاب الهمم.. والمقصود هنا هم الفئة التي فقدت إحدى الحواس بشكلٍ أو بآخر.. وسأُركِّز في هذا المقال على الأعزاء، الذين فقدوا حاسة البصر، وهي من أكبر التحديات، لأنه يهيمن على حوالى ثمانين بالمائة من المنظومة الحسية التقليدية بداخلنا، وبالتالي، فالمتوقع أن فقدان هذه الحاسة سيفقد المرء الجزء الأكبر من اتصاله بالعالم.. من عظمة رؤية صفحات المصحف الشريف، وفرحة رؤية الأحبة، وجمال تغيُّر ألوان السماء كل يوم، وبهجة الزهور، وروعة أشكال الغذاء، وملايين نِعَم الله الأخرى، التي نسعد بروائعها يومياً.. ولكن أنعم الله على الذين فقدوا بصرهم بقدراتٍ أخرى رائعة جداً، وفي الواقع أن القدرات الحسية لأصحاب الهمم تفوق ما نتخيَّل.. وهناك مجموعة معلومات تستحق الذكر، أُلخّصها في التالي:
أولا: من الصعب أن نجد ما يُوصَف بالعمى المطلق، لأن درجات فقدان النظر نادراً ما تكون كاملة.. تتفاوت تلك الدرجات وكأنها أطياف للرؤية.. البعض يرى انعكاسات لصور الحياة بزوايا ضيقة، والبعض الآخر يرى الانعكاسات معتمة تعتيماً شديداً، والبعض الآخر يرى نقاطاً أو دوائرَ أو مناطق سوداء في كل ما يرون.. والبعض يرى ما يُشبه الضباب بدرجات مختلفة.. وهناك مَن يُصاب بالعمى الليلي، فيفقدوا الرؤية عند انخفاض الإضاءة، وغيرها من الدرجات.. ويقدر عدد الذين يُعانون من العمى الكامل بحوالى خمسة عشر بالمائة فقط، من إجمالي عدد المكفوفين.
ثانيا: هناك نسبة كبيرة من المكفوفين الذين يفقدون بصرهم تدريجياً، وقد تطول مدة فقدان البصر إلى ما يزيد عن عشرين سنة، وهذا يعني أن فقدان هذه النعمة العظيمة؛ سيُمثِّل فرص وتحديات عظيمة للتأقلم مع فقدان الحاسة.
ثالثا: عانى الكثير من العظماء من العمى بشكلٍ أو بآخر، ولم يمنعهم ذلك عن العطاء المتميز للحضارة الإنسانية بأكملها.. ومن أشهر هذه الأسماء الصحابي عبدالله بن أم مكتوم، وقصته مع الرسول - صلى الله عليه وسلم - نتذكرها في أول آيات سورة «عبس» العظيمة.. والعديد من الأدباء كانوا من فاقدي البصر في فتراتٍ مختلفة من حياتهم، ومنهم أبوالعلاء المعري.. والأديب المصري د. طه حسين.. والناشطة الأمريكية هيلين كيلر.. والأديب البريطاني جون ميلتون.. وعالم الرياضيات الألماني ليونارد أويلر.. والعالم الإيطالي العملاق جاليليو.. ود. لويس برايل (مخترع لغة برايل الخاصة بالمكفوفين).. وغيرهم من الفنانين، والأدباء، والعلماء، والسياسيين.
رابعا: الأعمال المتعلقة بالعمى لها مكانة خاصة جداً في عالم «الأدب».. ومنها قصة «بلد العميان»، للكاتب البريطاني «هيوبرت جي ولز»، وهي من أشهر روائع القصص القصيرة ذات المعاني المؤثرة.. تدور قصتها حول قرية بالقرب من جبال «الأنديز» في أمريكا الجنوبية، حيث نشأت أجيال من العميان.. وعندما يزورهم أحد المبصرين، تأخذ القصة منحنيات فلسفية مذهلة.. وهناك أيضاً رواية «العمى»، للكاتب البرتغالي «هوزيه ساراماجو»، الذي حصل على جائزة نوبل للآداب عام 1998 بسببها.. وتدور حول وباء يُسبِّب العمى يُصيب سكان مدينة وهمية، ما عدا زوجة أحد أطباء العيون.. قصة مرعبة وحزينة.. وهناك أيضاً محتوى كتاب جديد بعنوان: «بلد العميان»، يحكي قصة حقيقية للمؤلف «أندرو ليلاند»، الذي يُصيبه مرض يُسبِّب العمى التدريجي، فيحكي قصة رحلته من عالم المبصرين إلى عالم المكفوفين.. وهناك عشرات الكتب الأخرى المرموقة حول نفس المواضيع.
* أمنيـــــة:
أتمنى أن نتذكَّر أن فقدان البصيرة أهم من فقدان البصر، وأن العالم اليوم يواجه تحديات في فاقدي البصر والبصيرة.. فهناك الملايين ممن يفقدون القدرة على الرؤية، وهناك أيضاً البلايين الذين يفقدون البصيرة، وبالذات القدرة على رؤية الحق، كما نشهد في حال كارثة فلسطين اليوم.
وللموضوع بقية إن شاء الله.