عندما وصلني كتابُ «بتوقيعي» إهداءً، وجدتُ أنَّه يحكي سيرةً ذات أبعادٍ في المعاني العصاميَّة، حكاياتٍ من بقايَا سيرةِ مؤلِّفهِ معالي المهندس عبدالله العلي النَّعيم، كما أراد أنْ يطلق عليه هو ذلك، حوى توقيعَهُ على سردِ ما أنجزه معاليه للوطن من إنجازاتٍ خاصَّةٍ في العاصمة الرِّياض، كما حوى على تسلسلٍ تاريخيٍّ لحياتِهِ، والجزء الأخير -تاريخ حياتِهِ العصاميَّة- انجذبتُ إليه كثيرًا كقارىءٍ؛ لأنَّ فيه شرحًا لبداياتِ حياتِهِ، وكيف عانَى، وتنقَّل، ودرسَ، وتعبَ، وتعلَّمَ، وعلَّمَ، إلى أنْ وصلَ إلى مَا وصلَ إليهِ، قدَّمَها بأسلوبٍ يُنبِئ عن حسِّه الأدبيِّ، وذائقةِ الحرفِ النَّاضجةِ عندَهُ، حيث سردهَا بطريقةٍ عفويَّةٍ وشيِّقةٍ إلى أبعد الحدودِ، مع ذكرِ ما مرَّ بِهِ دونَ مواربةٍ أو إخفاءٍ.
ذكرَ ولادتَهُ، ونشأتَهُ، وحكاياتِ شبابِهِ، وتنقلاتِهِ، وبحثَهُ عن العملِ في بدايةِ حياتِهِ، ومعاناتِهِ في ذلكَ، وتاريخَ تلكَ الفترةِ التي عاشهَا بكلِّ ما فيها من نواحٍ تعليميَّةٍ واجتماعيَّةٍ واقتصاديَّةٍ، تعمَّق في ذكرِ قصصٍ من أيَّام نشأتِهِ، وملاحقتِهِ لرزقِهِ، وشظفِ العيشِ الذي كان يعيشُهُ النَّاسُ أيَّام زمانٍ.
والكتاب «بتوقيعي» عبارة عن بصمة في شكلِ قصة حقيقية، مليئة بمحطات من أيام الزمن الجميل، تجعلنا ندرك أن شخصيته -ككل من عاش أيام زمان- شخصية مكافحة تذكر بجيل الرواد الذين بذلوا الجهد الكبير من أجل الوطن.
بدايةُ مشوارِ معاليه كانتْ من عنيزة، مسقط رأسهِ يوم أنْ كانَ لها سورٌ يتَّخذهُ أهلُ زمان ممشًى لهم، كما كانَ يفعلُ والدُه، حيثُ يمشي بعدَ أنْ يقفلَ دكَّانه الذي كان يسترزقُ منه ببيعِ التجزئةِ، ففتحَ معاليه دكَّانًا مثلَ والدِهِ لمدَّة عامٍ، ثمَّ أغلقَهُ وسافرَ إلى مكَّة المكرَّمة، ومعه بضاعةٌ من التَّمرِ والقرعِ ليبيعهَا هناكَ، ثمَّ انتقلَ إلى الرِّياض، التي لا يعرفُ فيها أحدًا، وبعد أيَّامٍ سافرَ إلى الشرقيَّةِ، واشتغلَ في محطَّةِ بنزين، وتعرَّض للفصلِ من العملِ، وأُعيد ثُمَّ فُصل مرَّة أُخْرَى، ثُمَّ توظَّف في رأسِ مشعابٍ، وكان عملُه من منطقةِ حفر الباطن، إلى الحدودِ الأردنيَّة في خطِّ الأنابيبِ، وصقلَهُ العملُ هناك أكثرَ، وما أنْ انتهى عملُه في خطِّ الأنابيبِ حتَّى عادَ إلى عنيزة، وحصيلته الماليَّة أربعمئةِ ريالٍ، وأعطى المبلغَ كلَّه لوالدِهِ، وهكذَا هي عادةُ أبناءِ ذلكَ الزَّمنِ الجميلِ، متى ما حوَّشُوا أيَّ مبالغَ من عملِهم تُعطى للوالدَينِ.
وفي عنيزة عملَ مدرِّسًا بعدَ أنْ رشَّحته لجنةٌ من أفاضل أهلِ عنيزة، حيث يومها لمْ تولدْ الشِّهاداتُ بعد، وكانَ بينه وبين الأساتذةِ والطُّلابِ العديدُ من القصصِ والحكاياتِ في الثَّانويَّةِ، والمعهدِ العلميِّ، ثمَّ تمَّ نقلُه إلى جدَّة، وعُيِّنَ وكيلًا للمدرسةِ الثانويَّةِ النموذجيَّةِ، ثمَّ عادَ إلى الرِّياض ليعملَ في إدارةِ التَّعليم، فمديرًا لإدارةِ التَّعليم، ثمَّ سنوات من العملِ بين إدارةِ التَّعليم وجامعةِ الملكِ سعود في قسمِ التَّاريخ، وشاركَ في التَّدريس فيها، وعاصرَ بداياتِ الجامعةِ، وأصرَّ معاليه أنْ يواصلَ تعليمَه، فابْتُعث إلى بريطانيا في تخصُّص التَّاريخ، ومكثَ هناك سنواتٍ، ولظروفٍ لم تُتَحْ له الفرصةُ في حصولِهِ على الدكتوراةِ، ثمَّ كانَ الاحتياجُ له في شركة الغازِ، حيث صدر قرارُ مجلسِ الوزراءِ بإسنادِ إدارةِ الشركةِ له، وبعد أنْ انتهت خدمتُه في الشَّركةِ، تمَّ تعيينُه أمينًا لمدينةِ الرِّياضِ، وفي هذه المرحلة تمَّ الإنجاز الذي عايشنَاهُ، ويعرفُه معظمُنا تحت توجيهِ سموِّ أميرِها -آنذاك- الأمير سلمان بن عبدالعزيز.
إنَّ «توقيعي» يشدُّ مَن يقرأه في دقَّةِ التَّفاصيل، وتذكرهَا مكانًا وزمانًا، وبما فيها من عبقِ وذائقةِ الزَّمنِ الجميلِ، التي تُعتبر دروسًا لجيلِ اليومِ؛ لأنَّ فيها روحَ القصَّة، وعمقَ المعنَى، ودروسًا من الحياة.
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
