يضيق كثير من الناس ذرعاً من الرأي المخالف لآرائهم، بل بعضهم يعتبر ذلك نقداً مباشراً لشخصياتهم وقراراتهم؛ إذا ما كان يتناول أموراً مخالفة لتوجهاتهم!.. والصحيح أن يتم احترام الرأي المخالف، لأن الاختلاف وارد بين الناس لاختلاف ثقافاتهم ومرجعيتهم الاجتماعية والدينية، وخبراتهم في الحياة، وهذه من سنن الله في الخلق، كما قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ). ومع أنه ترد العبارة الشائعة: «اختلاف الرأي لا يفسد للود قضية)، إلا إنه للأسف الخصومات لا تلبث أن تنشأ مع اختلاف الرأي، وتتسبب في مشكلات اجتماعية لعدم وعي الطرف الآخر بأهمية احترام الرأي الآخر، بل قد تصل إلى شيطنة الطرف الآخر، واتهامه بالتطاول، لأنه قال الحقيقة وعبَّر عن وجهة نظره.
وكاتب الرأي، وهو من فئة المثقفين، من أكثر الأشخاص الذي يمتلك مهارات التفكير الناقد، ومن شخصيته إبداء الرأي، بصرف النظر عن المخالف له؛ وهي مهارة تنشأ من تحليل الموقف إلى عناصره الأساسية، واكتشاف العلاقات من تقارب أو تضاد أو غيرها، ويعمل على تنقيتها، ثم الإبداع في الكتابة للرأي.. وهو لا يقصد إنساناً بعينه، ولكن للاستفادة من الأفكار والآراء؛ في التغيير وإصلاح المجتمع، وهو يقوم على المنطق، والحقائق المثبتة، والأدلة القوية لوجهة النظر، بل هو نوع من الفضول الأدبي أو العلمي أو الاجتماعي.
وهذا يدعوني إلى الكتابة عن المثالية، فالمدينة الفاضلة التي أرادها أفلاطون (٤٢٧- ق.م)، كانت الطبقية سائدة في المجتمع، فهناك طبقة العبيد، وطبقة الصناع، والطبقة الأرستقراطية التي كان ينحدر منها أفلاطون؛ وقد اهتم بضرورة خلق مدينة تطبق قيم العدالة والمساواة وكثيراً من الأفكار الفلسفية التي تقوم على استخدام العقل والتفكير، وعدم تقبل الآراء كمسلمات، ولكن لابد من التمحيص والتحليل ثم إبداء الرأي.
وحينما جاء الإسلام، أكد على أهمية استخدام العقل، ووردت الكثير من الآيات التي تدعو للتفكر، والتدبر، والتبصر.. بل وبصيغة التعجب عن عدم استخدام العقل: أفلا يعقلون، أفلا يتفكرون، وفي أنفسكم أفلا تبصرون.. وهذه تتطلب النظر في الأمر، ثم التفكر فيه ثم العظة.. وهي مرحلة الوصول للمثالية، وهذا ما يدعو له الإسلام.
ومع أن المثالية في الإسلام لا تعني مطلقاً التشدد والتطرف الفكري، بل على العكس فهي تعني الوسطية والاعتدال، فلا إفراط ولا تفريط، وإعطاء الروح مساحة من السعادة بالترويح ساعة بعد ساعة، والإيمان بكل ذلك من خلال عقيدة صحيحة، وهذا ما تُؤسِّس له التربية في مدارسنا، حتى إن الفلسفة لا تُدرَّس إلا في الصف الثالث متوسط والمرحلة الثانوية، بعد تثبيت العقيدة في نفس الطالب، ثم تأتي مرحلة التفكير الناقد، وإعطاء العقل الحرية في الاختيار. كما أن الإسلام يحرص على تلبية المُتَع والحاجات الجسدية، فإشباع الحاجة من الطعام وأكل الحلال منه، ولكنه حرم أشياء أخرى في مصلحة الإنسان، والزواج هو الطريق الصحيح، ولكنه حرم الزنا.. بل حتى فريضة الحج تكون لمن استطاع إليه سبيلاً، جسدياً ومالياً.. وهكذا في بقية الفرائض.
والإسلام دين المثالية؛ وعدد آيات القرآن الكريم 6236 آية، منها فقط 110 آيات عن العبادات، بينما 1534 آية عن الأخلاق، وهو بذلك يربي المسلم على بلوغ درجات عليا من السلوك الأخلاقي في جميع التعاملات والعلاقات، وجاءت الآيات القرآنية في التوجيه الأخلاقي، وأقلها كما في سورة لقمان عليه السلام الذي يوصي ابنه بالكثير في فن التعامل الاجتماعي: منها توصيته بوالديه، ومصاحبته لهما في الدنيا معروفاً، والصبر على ما أصاب الإنسان، وعدم التكبر على الناس، والسير باتزان في الحياة، وعدم رفع الصوت، الذي شبَّهه بصوت الحمير - أجلَّكم الله.
كثيرة هي التوجيهات القرآنية بما يُحقِّق للفرد التوازن النفسي والاجتماعي في الحياة، وبالتالي سلامته الجسدية والعقلية والنفسية.
كما أن السيرة النبوية الشريفة ذاخرة بالقيم والتعاملات الاجتماعية، ومنها على سبيل المثال: احترام الكبير، وحديثه عليه الصلاة والسلام: «من لم يُوقِّر كبيرنا فليس منَّا»، فهو قدوتنا ومعلمنا الأول..هذه القيم قد لا تكون متوفرة عند الجميع وبدرجات متساوية، وبذلك تأتي التصرفات غير متوافقة مع الشخص المثالي.
أخيراً أقول: إن المثقف أو المفكر المسلم المثالي، قد لا يرضى عنه كثير من الناس، لأن عقولهم وأفكارهم قد توقفت عند مرحلة تجاوزها المثقف برؤيته الثاقبة واعتناقه لكثير من المبادئ والقيم، التي لا يمكن أن تستوعبها أفكارهم، ولكن تبقى المثالية في الإسلام هي الأنموذج، لأنها تقوم على عقيدة: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى.