بعد مضي يوم واحد من طلب محكمة العدل الدوليَّة التَّابعة للأمم المتَّحدة من إسرائيل، منع ومعاقبة التَّحريض على الإبادة الجماعيَّة ضد الفلسطينيِّين، وذلك ضمن حُكمها الابتدائيِّ بشأن الدَّعوى القضائيَّة التي رفعتها جنوب إفريقيا على إسرائيل، وتتَّهمها فيها بارتكاب «إبادة جماعيَّة» في قطاع غزَّة، اكتشفت إسرائيلُ فجأةً، وبعد ما مضى مئة وعشرة أيَّام من عمليَّة طوفان الأقصى، أنَّ اثني عشر من موظَّفي الأونروا في غزَّة شاركوا في العمليَّة، لصرف الأنظار عن ما جاء في قرارِ محكمةِ العدل الدوليَّة من إدانةٍ لإسرائيل بجريمة الإبادة الجماعيَّة لفلسطينيِّي غزَّة من جهة، ومن جهة أُخْرَى لتنتقم من الأونروا؛ لكشفها كذب الاحتلالِ بغلق المعابر، وكشفها مجازرَهُ البشعة في مراكز الإيواءِ التَّابعة لها تجاه النِّساء والأطفال، ومن جهةٍ ثالثةٍ لتستمرَّ في إبادتِها للغزَّاويِّين بتعطيل خدمات الأونروا في مختلفِ أنحاء القطاع، لما مجموعه 1,4 مليون لاجئٍ من فلسطين، بما في ذلك المعونةُ الغذائيَّة لحوالى 1,2 مليون لاجئٍ، خاصَّةً في هذه الظُّروف التي وضعتهم فيها إسرائيل بحربها على غزَّة، وقصفها المستمر ليلَ نهار، فقتلتْ -حتَّى الآن- أكثر من 25 ألفًا و700 شهيدٍ، وأصابت أكثر من 63 ألفًا و740 آخرين، وأكثر من 8 آلاف لايزالون تحتَ الأنقاضِ، 70% من هؤلاء الضَّحايا نساءٌ وأطفالٌ، وإسرائيلُ تستهدفُ من هذا الاتِّهام إلغاءَ الأونروا؛ لتصفيةِ قضيَّةِ اللَّاجئين، فخدمات الأونروا متاحةٌ لكافَّة اللَّاجئين الفلسطينيِّين الذين يعيشُون في مناطق عمليَّاتها، والمسجَّلين لدى الوكالة بأنَّهم بحاجةٍ للمساعدةِ، وعندما بدأت الوكالةُ عملها في عام 1950، كانتْ تستجيبُ لاحتياجاتِ ما يقرب من 750,000 لاجئٍ فلسطينيٍّ.
واليوم فإنَّ أكثرَ من خمسة ملايين لاجئٍ فلسطينيٍّ، المنتشرين في الأردن ولبنان وسورية والأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة وقطاع غزَّة، يحقُّ لهم الحصول على خدمات الأونروا، وتشملُ خدماتُ الوكالة: التَّعليم، والرِّعاية الصحيَّة، والإغاثة، والبنية التحتيَّة، وتحسين المخيَّمات، والدَّعم المجتمعي، والقروض الصغيرة، وما تقدِّمه الأونروا من خدمات للَّاجئين الفلسطينيِّين يفتقرُ إلى الحدِّ الأدنى المطلوب؛ للحفاظِ على كرامةِ البشرِ، وذلك وفقَ ما تحصلُ عليه الوكالةُ من الدَّعم الماديِّ عبر التبرُّعات الطوعيَّة للدُّول الأعضاء في الأمم المتَّحدة.. علمًا بأنَّ الرَّئيس ترامب كان قدْ قلَّص المساعداتِ الأمريكيَّة للأونروا.. ولا غرابةَ من تعليقِ تسعِ دولٍ غربيَّةٍ مساعدتها للأونروا؛ بمجرَّد اتِّهام إسرائيل لـ12 موظَّفًا من بين 13 ألفَ موظَّفٍ من موظَّفي الأونروا، باشتراكهم في عمليَّة طوفانِ الأقصى، دونَ ثبوتِ هذه التُّهمة عليهم، ورغم فصلِ الأونروا للمتَّهمين قبل التَّحقيق معهم، وإعلان منظَّمة الأمم المتَّحدة أنَّها ستحقِّق فيما نسبته إسرائيلُ لهم، إلَّا أنَّ هذه الدُّول لم تنتظرْ نتائج التَّحقيق؛ لأنَّها شريكةٌ لإسرائيلَ في الإبادةِ الجماعيَّةِ للغزَّاويِّين.
والسؤالُ: لماذا هذَا العقابُ الجماعيُّ، رغم أنَّ إسرائيلَ قتلت حوالى (114) من موظَّفي الأونروا، ولم نجدْ دولةً غربيَّةً واحدةً تُعلِّق مساعداتها لإسرائيلَ؟.
ويجيبُنَا المؤرِّخُ البريطانيُّ أرنولد توينبي في كتابِهِ: «مشكلة اليهوديَّة العالميَّة»، الذي بيَّن فيه كيفَ سيطرَ اليهودُ على العقليَّة المسيحيَّة ووجَّهوها وفق ما يريدُون؟، وكيف تقبَّلت الكنيسةُ دونَ مناقشةٍ تفسيرَ اليهودِ لتاريخهم -كما ورد في التَّوراة المحرَّفة من قِبَلهم- ممَّا تضمُّه من المطاعن ضدَّ كثيرٍ من الشُّعوبِ؟ وقد انفرد اليهودُ في هذا الميدانِ بإقدامهم على رفعِ سجل تاريخهم إلى منزلةِ التَّقديسِ، وتعتبر المذاهب المسيحيَّة -على اختلافها- التَّاريخ اليهودي تاريخًا مقدَّسًا، ومهما يكنْ نصيب الفرد المسيحيِّ من الاستنارة الفكريَّة، ومقدار تحرُّره الذهنيِّ، فيصعبُ عليه بمكان أنْ يتخلَّص من التُّراث اليهوديِّ في المسيحيَّة؛ لأنَّه كامنٌ في شعورِهِ الباطن.
وما قاله توينبي حقيقة واقعة، فالعقلية المسيحية الغربية تقبل الروايات الإسرائيلية كأنها حقائق مسلم بها، وأرواح اليهود في نظرهم مقدسة، أما الفلسطينيون فهم حيوانات بشرية، ورغم ثبوت عدم صحة الرواية الإسرائيلية عن قتل كتائب القسام -في هجومها- للأطفال وحرقهم، واغتصابها النساء، فقد سلموا باتهامها لبعض موظفي الأونروا بمشاركتهم في عملية طوفان الأقصى قبل التحقيق معهم، وثبوت إدانتهم!.
وقد طالبتْ إسرائيلُ بتصفيةِ الأونروا، وكأنَّها صاحبةُ القرارِ في ذلك، ولم نجدْ ردًّا من مسؤولٍ في الأمم المتَّحدة، ولا من أيَّةِ دولةٍ عليها، بأنَّه ليس من حقها ذلك، ولكن مادامت محكمة العدل الدوليَّة لم تجرؤ أنْ تحكمَ على إسرائيل بوقفِ إطلاقِ النَّارِ في غزَّة بصيغةٍ مباشرةٍ، ولم توقِّع عليها أيَّة عقوبة رغم ما ترتكبه من جرائمَ حربٍ ومذابحَ ومخالفاتٍ للقانون الدوليِّ في فلسطينَ، وتسلِّم كُبْريات الدُّول برواياتِها دونَ التَّحقق منها، وكأنَّها حقائقُ مسلَّمٌ بها، وتتَّخذ قراراتٍ بموجبها تتعلَّق بمصيرِ أكثرِ من خمسة ملايين لاجئٍ فلسطينيٍّ، يجعلها تفعلُ ما تشاء، وهي واثقةٌ أنَّها ستفلتُ من أيِّ عقابٍ.. وهذا يؤكِّد أنَّ اللوبيَّ اليهوديَّ الصهيونيَّ هو الذي يحكمُ العالمَ.. وهنا أناشدُ الدُّولَ العربيَّةَ والإسلاميَّةَ، والدَّولَ التي لا تسيرُ في فلكِ الدُّول الغربيَّة المنحازةِ لإسرائيل؛ أنْ تضاعفَ من مساعداتِها للأونروا؛ حفاظًا على حياةِ أهاليِنَا الغزَّاويِّين.