خارج جدَّة، وفي طريقِ المدينةِ المنوَّرة، أعرفُ مقهى شعبيًّا صغيرًا، ويُجيدُ صُنْعَ كلِّ أصنافِ الشَّاي الذي أفضِّلهُ على القهوةِ، مثل الشَّاي العراقيِّ، والتركيِّ، والكركِ، والمُنعنشِ، والعدنيِّ... إلخ... إلخ... إلخ، وهو بجودةِ شاي زمان، وبنفسِ أسعارِ زمان، وليس مثل داخلِ جدَّة والمُدن الأُخْرَى التي ارتفعتْ فيها الأسعارُ ارتفاعًا مُبينًا!.
والسلبيَّةُ الوحيدةُ في هذا المقهى، الذي ازدادت روعتهُ مع موجاتِ بردِ الشِّتاء الذي تتمتَّع به جدَّة حاليًّا، هي عدمُ وجودِ دوراتِ مياهٍ، ومَن يحتاج لها تلبيةً لفطرتِهِ البشريَّةِ، فعليهِ الذهابُ لدورةِ مياهِ المسجدِ المجاورِ للمقهَى، ويالفظاعةِ دخولِ هذه الدورةِ، مع حجمِ الاتِّساخِ الذي تُعانِي منهُ، ولولا مخافةُ إصابتِكُم بالقرفِ والاشمئزازِ لسردْتُ تفاصيلَ هذا الاتِّساخ، ولكنْ ذرونِي أكتفِي بالقولِ إنَّ أسرابًا من الذُبابِ تستقبلُ كلَّ داخلٍ للدَّورةِ وتودِّعهُ بحفاوةٍ وترحابٍ، وتظلُّ تتفرَّجُ عليه، وتحطُّ عليهِ من كلِّ الجهاتِ، وكأنَّها طائراتٌ حربيَّةٌ مُسيَّرةٌ، مع فارقٍ واحدٍ هو أنَّ الطَّائرات تحملُ قنابلَ، بينما الذُبابُ يحملُ الأمراضَ!.
وهذا يدعونِي لفتحِ ملفِ دوراتِ مياهِ المساجدِ والاستراحاتِ خارج مدنِنَا، والتي أجزمُ أنَّها العائقُ الأوَّلُ لإحجامِ النَّاسِ عن السَّفرِ برًّا بسيَّاراتِهم والاستمتاعِ بالطبيعةِ الشتائيَّةِ والربيعيَّةِ والتَّخييمِ في البراري، ولا أعلمُ السَّببَ الذي يحولُ دونَ حلِّ هذا الملفِّ المُزمنِ، لا سيَّما مع دخولِنَا لعالمِ السياحةِ من أوسعِ أبوابِهِ، وهناك الآلافُ من السُيَّاحِ الأجانبِ ممَّن يتكوَّن لديهم انطباعٌ غير مُحبَّبٍ إذا جرَّبُوا استخدامَ مثل هذه الدَّوراتِ غير الحضاريَّةِ!.
والحلُّ -من وجهةِ نظرِي- هي خصخصةُ هذه الدَّوراتِ، وفرضُ رسومٍ رمزيَّةٍ لاستخدامِهَا، واستغلالُ الرُّسومِ لصيانتِهَا ونظافتِهَا، مثلما يحصلُ في الكثيرِ من الدُّول السياحيَّةِ، وهذا جانبٌ لا ينبغِي إهمالهُ، ودوراتُ المياهِ العامَّة جزءٌ لا يتجزَّأُ من سُبل تطويرِ وسائلِ التنقُّل البريِّ، وتحفيز النَّاس لسلوكِهِ، وإحياء الكثيرِ من الأماكنِ السياحيَّةِ المجاورةِ والمحاذيةِ للطُّرق السياحيَّة، ومعذرةً إذ اشتريْتُ شايًا من هذا المقهَى، وقفلتُ راجعًا لجدَّة، بدلًا من شُربِهِ في الهواءِ الطَّلقِ، والوضعُ لا يُطاقُ!.