المألوف في قضية (المؤامرة) هو أن فئة المحافظِين هي أكثر مَن يستخدم هذه المفردة، وأن فئة المثقفِين خلاف ذلك، ومع هذا فقد آمن بعض المثقفين بالمؤامرة؛ فاستخدموا هذه المفردة حينما تعرضوا لشيء من الحيف. فقد رأينا كيف أن الوزير الدكتور (غازي القصيبي) - رحمه الله- عندما خسر السباق مع الياباني (كوتشيرو ماتسورا) على منصب مدير عام منظمة (اليونسكو) رأى أن المؤامرة تقف خلف فوز الياباني بالمنصب، فألَّف رواية سماها (دنسكو) إسقاطًا على انتخابات المنظمة، وليس بعيدًا عنه وزير الثقافة المصري الأسبق (فاروق حسني) الذي خسر السباق على المنصب نفسه مع البلغارية (إيرينا بوكوفا)، فلجأ لمفردة المؤامرة ليبرر عدم فوزه بالمنصب، ورأينا كيف أن أمريكا - بكل عقلانيتها- اتهمت الصينَ بأنها تقف وراء جائحة كورونا وعدَّتْ تلك الجائحة مؤامرة. هذا يقودنا إلى ما تتعرض له اللغة العربية على المستوى المحلي والعربي، وهذا لا يعني أن ما تتعرض له لغتنا العربية هو من باب المؤامرة؛ وإنما هو من باب التساهل والتسامح (غير المبَرَّرَين)، وهذا التساهل لا يضر بأمر هامشي إنما يضر بأمر هو من صميم ثوابتنا؛ فهو يضر بلساننا العربي الذي هو وسيلتنا في التخاطب ويشكِّل هويتنا، يضاف إلى ذلك أن اللغة العربية هي من أهم دعائم وحدتنا الوطنية، ولو أننا استمرأنا هذا التساهل فهذا يعني طغيان اللهجات الجهوية العامية، ثم ندخل بعد ذلك في سباق بين هذه اللهجات الجهوية على الأحق بالتمكين بحيث تصبح لغة التخاطب الرسمية، ثم ندخل إلى نفق يوصلنا في نهايته إلى أن نصبح بفعل هذه اللهجات وكأننا في جزر معزولة.
لعل من أوضح صور التساهل في حق اللغة العربية -أو التحول عنها- ما نلاحظه من ضعف في محتوى مقرراتها في المرحلتَين الابتدائية والمتوسطة، ومن صور التهاون إقرار بعضِ المؤسساتِ الثقافية والإعلامية (العاميةَ) في برامجها وفعالياتها ومن على منابرها، ومن صور التهاون عدم اعتزاز بعض المتخصصِين في اللغة العربية -وخاصة من يحملون شهادات عليا فيها- بها؛ حينما رهنوا أنفسهم للعامية من خلال أشعارهم واهتماماتهم، ومن ذلك أيضًا تشديد بعض المتخصصين على الظواهر الصوتية اللغوية القديمة (كالكشكشة والشنشنة والفحفحة) وغيرها والاجتهاد في إبرازها لا لأجل حصر الفصيح منها ودراسته فحسب؛ وإنما لإحيائها وإضفاء مشروعية على استخدامها وهنا مكمن الخطورة، وكأن اللغة العربية لا يكفيها ما تعيشه من حالة شتات واغتراب، ومن صور التهاونِ الاندفاعُ من قِبل بعض شعراء الفصحى (المُجيدِين) نحو العامية من خلال كتابتهم قصائدَ تندرج تحت مسمى الشعر العامي، واندفاع بعض سدنة الفصحى (من النقاد والأكاديميين والباحثين) إلى العامية نقدًا وتحكيمًا لنتاجها وبحثًا فيه ومدارسةً، ومطالبة بعضهم بالخروج على المعايير اللغوية التي تضبط المكتوب والمنطوق.. ولكِ اللهُ يا لغةَ الضاد.
بوح:
لُغةُ الضَّادِ تَسامتْ نخلةً طلعُها فِكْرٌ وحرفٌ رائقُ
نزلَ الذكْرُ فكانتْ روضَهُ وزَهَا منها البيانُ الشَّائقُ
وارتَوى منها بَديعٌ واعتَلى ألسُنَ القومِ جَمالٌ فائقُ
طِبتِ في أرواحِنا مِن لُغةٍ زانَ منها العُرْبَ ثوبٌ لائِقُ