قبلَ أيامٍ نشرتْ صحيفةُ عكاظ نشاطًا حيويًّا ومثمرًا، قامت به أمانةُ جدَّة، حيث اشترطت الأمانةُ على العاملِينَ في سوقِ الخضارِ العام بجدَّة، إحضارَ كفلائِهِم معهم، في خطوةٍ قويَّةٍ من أجلِ القضاءِ على التستُّر، خاصَّةً وأنَّ سوقَ الخضارِ منطقةٌ استثماريَّةٌ فيها الكثيرُ من الفُرصِ التِّجاريَّةِ.
هذا الخبرُ الذي نشرتهُ صحيفةُ عكاظ، وأُحيِّي رئيسَ تحريرِهَا الصَّديقَ النَّبيلَ "جميل الذيابي" على هذِهِ الأخبارِ النَّوعيَّةِ.
هذا الخبرُ ذكَّرنِي بمقالٍ كتبتُهُ قبلَ خمس عشرة سنةً، وفيه قصَّةٌ تُغطِّي دلالاتٍ قويَّةً على جوانبِ القوَّةِ الاستثماريَّةِ في أسواقِ الخُضارِ والفواكهِ المنتشرةِ في كلِّ المُدنِ السعوديَّة.
وقبلَ القصَّةِ أقولُ: دائمًا نقرأُ قولَ الحقِّ -جلَّ وعزَّ-: "فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا".. صدق اللهُ العظيم.
ولكنْ -وكمَا يقولُ الإنجليزُ؛ دائمًا هناك لكنْ- نادرًا ما نتمثَّلُ هذِهِ الآيةَ في حياتِنَا على الصَّعيدِ العمليِّ؛ لأنَّ المرءَ حينَ يُمنعُ مِن شيءٍ، غالبًا ما تراهُ عبوسًا قمطرِيرًا مِن حرمانِ ما مُنعَ منهُ.. وهُو لَا يدرِي أنَّ هذَا المنعَ قد يكونُ فيه الخيرُ الوفيرُ، والرِّزقُ الكثيرُ.
تقولُ الحكايةُ: (إنَّ رجلاً عاميًّا يحملُ شهادةَ الصَّفِّ السَّادس مِن أهلِ بريدة؛ رَغِبَ في الحصولِ على وظيفةِ فرَّاشٍ، فتقدَّم إلى وزارةِ الخدمةِ المدنيَّةِ، وبدأَ يملأُ الاستمارةَ، وكانَ مِن ضمنِ الفَراغاتِ خانةٌ تطلبُ إيميلَ المُتقدِّمِ للوظيفةِ، فقال المُجيبُ على الفورِ: "ليسَ عندِي إيميلٌ، ولَا أتعاملُ بِهِ. فاعتذرَ الموظَّفُ لهُ بلُطفٍ، مؤكِّدًا على ضرورةِ وجودِ إيميلٍ؛ لتَسْهُل عمليَّةُ التَّواصلِ"!
غضبَ صاحبُنَا مِن الموظَّفِ، وتركَ المكانَ قائلًا لَهُ: إنَّ وظيفةَ فرَّاشٍ لا تستحقُّ كُلَّ هذِهِ الطَّلباتِ. وغادرَ المبنَى غيرَ آسفٍ على الوظيفةِ، ثمَّ انطلقَ إلى سوقِ الخُضارِ، وأخذَ يبيعُ ويشترِي -وتسعةُ أعشارِ الرِّزقِ في التِّجارةِ- ويومًا بعدَ يومٍ أخذتْ ثروتُهُ تتكاثَرُ، كمَا تتكاثرُ خسائرُ سوقِ الأسهمِ السُّعوديِّ في هذِهِ الأيَّام!
وبعدَ أنْ بلغتْ ثروتُهُ آلافَ الرِّيالاتِ، وكانَ يضعُهَا تحتَ الوسادةِ في المنزلِ، أشارتْ عليهِ زوجتُهُ بأنْ يَفتحَ حسابًا في البنكِ، ليُودعَ فيهِ النُّقودَ. فذهبَ صاحبُنَا إلى البنكِ، وأخذَ يملأُ الاستمارةَ، ويُعبِّئُ الخاناتِ -ويا للمُصادفةِ- جاءتْ خانةٌ تطلبُ الإيميلَ.! عندهَا رفضَ ملءَ هذِهِ الخانةِ قائلًا بسخريةٍ عاليةٍ: "لوْ كانَ عندِي إيميلٌ كان صرتُ فرَّاشًا لمدرسةٍ")!!
هذه القصَّة على بساطتها ورمزيّتها؛ تُعطي بوضوح أهميّة احترام سُنن الكون، وحُسن الظّن بالله، والرّضا بالقدر خيره وشرّه، وأمر المؤمن كُلّه خير في السرَّاء والضرَّاء.. ولله ما أجمل ما قاله الشّاعر اللبناني "إيليا أبوماضي" في هذا الشّأن حيث غَنَى قائلاً:
لَا تَقُل لِي: هَكَذَا الله قَضَى
أَنتَ لَا تَعْرف أَسْرَار القَضَا!
حقاً.. لا أحد يعرف أسرار القضاء إلَّا مَن يعلم السِّر وأخفى!
حسناً ما ذا بقي:
بقي القول: يا قوم.. تأمَّلوا اختياراتكم، وراقبوا مَسَاراتكم، وتفكَّروا في القرارات التي غيّرت مجرى حياتكم، ستجدون أنَّكم لستم عَن صاحب الحكاية ببعيد..!
نعم؛ قد تجدون الرزق يأتي من كل مكان، قد يأتي من بيع الأفكار، وقد يأتي من بيع العقار، وقد يأتي من سوق الفواكه والخضار.