تهدف هذه المقالة إلى تسليط الضوء على جهود الإمام محمد بن سعود في تأسيس الدولة السعودية، والتي تمثل النواة الأولى لبناء الدولة والانطلاقة الحقيقية لتوحيد أغلب أقاليم الجزيرة العربية. كما تهدف، من جانب آخر، إلى القول بأنَّ مشروع الإمام محمد بن سعود لتأسيس الدولة قد مرَّ بمرحلتين، الأولى من عام 1139هـ إلى عام 1156هـ، حيث توافرت في هذه المرحلة مقومات تأسيس الدولة المتمثلة في الاستقلال السياسي وفرض الأمن وتعزيز الاستقرار السياسي والاقتصادي والعسكري للدرعية. والثانية تبدأ من عام 1157هـ إلى وفاة الإمام محمد بن سعود، حيث ظهرت في هذه المرحلة بداية بسط نفوذ الدولة على الأقاليم النجدية، ونشوء مقدمات التنظيم الإداري والقضائي والمالي.
وعلى هذا الأمر، فإنَّ يوم التأسيس هو مناسبة جديدة، يَستدعي من خلالها المواطن الذاكرة الوطنية، ويقف على العمق التاريخي لتاريخ المملكة العربية السعودية، إذ هو يوم الانطلاقة لبداية تاريخ الدولة السعودية الذي بدأ في يوم 30/ 6/ 1139هـ على يد الإمام محمد بن سعود -رحمه الله-، وليس عام 1157هـ كما قال به معظم المؤرِّخين، القدماء منهم والمعاصرون على حد سواء.
أمَّا الحالة السياسية قبل حكم الإمام محمد بن سعود، فإنَّ جل المصادر المحلية والمعاصرة، تذكر أنَّ نجدًا كانت مضطربة في جميع نواحيها، مفككة الأوصال، لا توجد رابطة تجمع أقاليمها، حُكامها مختلفو الكلمة، متباينو النزعات، وتجد الفتنة ضاربة أطنابها في المدن النجدية، وهذا يعود إلى فكرة ترسيخ مفهوم نظام دولة المدينة، إذ كان على رأس كل مدينة في نجد حاكم مستقل، تمامًا وعلى غرار المدن الإغريقية في التاريخ القديم، الأمر الذي يؤكد على غياب فكرة الدولة القائمة ضمن منظومة سياسية موحدة.
وفي ضوء تلك الاضطرابات، كان الإمام محمد بن سعود وما اتصف به من صفات القيادة والحنكة السياسية، يراقب الأوضاع السياسية المحيطة به، وبعد تجربة سياسية اكتسبها من والده الأمير سعود بن محمد، أدرك أنَّ الضرورة قد آن أوانها بقيام مشروع الدولة، والقضاء على ما يسمى بدولة المدينة، التي كانت أغلب المدن النجدية تتخذها كمنظومة سياسية، وقد مرت جهوده نحو تأسيس الدولة بمرحلتين، وتمثلت إنجازات المرحلة الأولى التي تبدأ من عام 1139هـ وإلى 1156هـ، في عدة حوادث تاريخية، وهي توحيد الدرعية ووضع نظام الحكم في أسرة واحدة وهي أسرة آل مقرن؛ ممَّا أدَّى إلى استقرار سياسي لم تشهده الدرعية من قبل، مقارنة عن بقية المدن النجدية التي شهدت اضطرابات سياسية وتعرضها لغزوات خارجية سواء من داخل نجد أو خارجها.
كما أنَّ من إنجازات هذه المرحلة، الاستقلال السياسي، اذ تمتعت الدرعية باستقلال تام ولم تخضع لأي قوة خارجية مقارنة بغيرها من المدن النجدية، إضافة إلى تعزيز الإمام محمد لقوة الدرعية العسكرية، وتعزيز مواردها المالية، وتقوية مجتمعها وتوحيد أفراده في سلطة سياسية كان على رأسها. كما قام الإمام محمد ببناء علاقات ودية مع المدن النجدية والحفاظ على استقرارها السياسي، ولعل خير مثال على ذلك، عندما ساعد على استقرار الرياض ودعم حاكمها الأمير دهام بن دواس بقوة عسكرية بقيادة الأمير مشاري بن سعود. كما شهدت هذه المرحلة إنشاء الإمام محمد لحي جديد في سمحان وهو حي الطرفية بعد أن كانت غصيبة مقرًّا لحُكمه ولفترة من الزمن.
أمَّا عن إنجازات المرحلة الثانية، فتتمثل في عدة حوادث تاريخية، لعل من أولها قدوم الشيخ محمد بن عبدالوهاب للدرعية عام 1157هـ، إذ كان الإمام محمد بن سعود متابعًا للشيخ محمد ودعوته الإصلاحية القائمة على تنقية المجتمع من البدع والخرافات وضرورة نقله من مستويات الجهل إلى مستويات التعليم، ولكون الإمام محمد كان متدينًا كما تصفه المصادر، ومؤمنًا بضرورة الإصلاح الديني والثقافي، فقد رتب لقدوم الشيخ محمد إلى الدرعية، ورأى في الدعوة الإصلاحية عاملًا مساعدًا ومهمًّا في مشروعه السياسي لبناء الدولة والذي بدأه منذ عام 1139هـ.
كما شهدت هذه المرحلة اتِّساع الدولة، حيث قام الإمام محمد بقيادة الجيوش وأسند القيادة بعد ذلك لابنه الإمام عبدالعزيز، واستطاع ضم أغلب المناطق النجدية، وارتكزت سياسته على الحكمة والصبر والتأمل والرؤية المستقبلية في ضم تلك المناطق، وهذا عائد لقراءته للمشهد السياسي؛ ففكرة الاستقلال الذاتي وترسيخ مفهوم دولة المدينة ورفض مفهوم الدولة الواحدة كان مسيطرًا في ذهنية الكثير من الحكام المحليين، وبسبب هذه النزعة الاستقلالية الذاتية، لم يكن من المستغرب أنْ يوصي الإمام محمد ابنيه الإمام عبدالعزيز والأمير عبدالله بضرورة اتخاذ سياسة الحكمة في ضم مناطق الجزيرة العربية، وهذا ما حدث فعلًا في عهده وما بعد وفاته، حيث استغرق ضم بعض البلدان سنوات طويلة، وظهرت جليًّا نتائج سياسته الحكيمة على عهد حفيده الإمام سعود، عندما بلغت الدولة السعودية أوج اتِّساع لها عبر تاريخ الجزيرة العربية.
إضافةً إلى اتِّساع الدولة واحتواء الزعامات المحلية وانتشار أخبارها خارج الجزيرة العربية، فإنَّ الإمام محمد استطاع الحفاظ على ما قام به من إنجازات تمثَّلت في تعزيز القوة العسكرية للدولة وحماية مكتسباتها الجديدة، كبناء سور الدرعية، ومواجهة الأخطار التي أرادت النَّيل من الدولة والقضاء عليها في عام 1172هـ و1178هـ، وكذلك القدرة على حماية طرق قوافل الحج والتجارة؛ ممَّا أدَّى إلى قيام حالة استقرار سياسي واقتصادي في المناطق التي سيطر عليها الإمام محمد في وسط نجد.
كما أنَّ من أعمال الإمام محمد في هذه المرحلة قيام إرهاصات التنظيمات الإدارية والقضائية والمالية، كتعيين أمراء المناطق والقضاة والدعاة ورجال الحسبة وإحياء نظام الحسبة واستبدال الإتاوة بالزكاة.
وبناء على ما سبق، فإنَّ اتخاذ المؤرخين عام 1157هـ، عام تأسيس لقيام الدولة السعودية لم يكن إلَّا مجرد اجتهاد، اعتمده المؤرخون المعاصرون وفقًا لما أورده كل ابن غنام وابن ابشر، والذين ربطوا قيام الدولة بقدوم الشيخ محمد بن عبدالوهاب إلى الدرعية، ولم يقفوا استقراءً ورصدًا على المرحلة الأولى من عهد الإمام محمد بن سعود، والتي تمثل البداية الحقيقة لتأسيس الدولة السعودية.
د. خالد بن عبدالله الكريري * قسم التاريخ - جامعة الملك عبدالعزيز