لا أعرف ما الذي يدفعني لاستحضار رواية (ضباب) (Niebla)، للإسباني ميجيل دي أونامونو، وشخصيَّة أوغوستو الموصوفة بالإغراق في عالم الأفكار، وصولًا لتجرُّدها من الإحساس بالحياة اليوميَّة.
وهذا الشعور يكاد ينطبق على استدعاء رواية (الضباب) لثروت أباظة، بما تحمله من معنى مجازيٍّ أو رمزيٍّ للدلالة على بعض الآفات المجتمعيَّة.
وكل ذلك قد يكون له خيط في اللاشعور، دفعني إلى استحضار واستدعاء تلك الروايتين، مع الفارق بينهما من حيث التشكُّل والثيمات.
وبصرف النظر عن الروايتين؛ فإنَّ الضباب بالمعنى الحقيقي الذي أعنيه هنا، هو ندى أشبه ما يكون بالغيم الذي يغشي الأرض حقيقة لا مجازًا؛ فكأنَّما تلك الكتل الضخمة التي تُرى عالية سُحبت إلى الأرض سحبًا، وهبطت إلى الأرض هبوطًا، فيغدو الإنسان معها مغشى إليها، ومتلحفًا بها، أو هي نفسها أغشت الإنسان وألحفته بالرداء الأبيض الشفاف.
وبعيدًا عن المصطلحات العلميَّة حول مسميَّات السُّحب ودرجاته وأنواعه؛ فإنَّ الضباب بالمفهوم البسيط الذي أراه، كما في هذه الأيام في الباحة، هو الذي أعنيه برأي العين والبصر والبصيرة، ويُسمَّى حينًا بالضريبة.
إنَّني أعني ما أقول؛ فأنا أحبُّ الضباب، وحبِّي له حبُّ تنشئة ومزاج، كما يحب الفرد شيئًا كان للتنشئة دورها في هذا الحب.
أحبُّ الضباب؛ وأجدُ فيه بُغيتي واقعًا من الانطواء والعزلة والتأمُّل، وأجدُ فيه مبتغايَ مجازًا حينما يلفُّني بردائه= رداء الكون، إنَّه ذلك الرداء الذي يشفُّ ولا يسترُ، حالما يلملم جسدي النَّحيل ويجرُّه جرًّا إلى حيث السكون والوحدة.
في هذه الأيام، وما سبقها من أسابيع تعيش قريتي (البارك)، كما تعيش بعض قرى الباحة بصحبة تلك الكتل الضخمة من الضباب= الهَيْدَب، حيث يغشاها ليلًا ونهارًا في الصباح والمساء معًا، وهو يتدلَّى من أعالي الجبال، ويتهادَى في كبر وكبرياء كعروس قد كساها رداء العرس، فأضحت حديث العذارى والآنسات..!!
وحينما يهبط الضباب على قريتي؛ فكأنَّما هو وهي قطعة من السماء، أو كأنَّهما السماء في جلالة، وجمال، وبهاء، وإنَّهما بذاك المعنيين
على وجه الحقيقة، أو وجه التقريب والمجاز.
حسنًا؛ ثمَّ ماذا؟
إنَّ جزءًا من الباحة يعيش حالة ضبابيَّة في أوقات معيَّنة قد تستهوي السَّائحين، كما تستهويهم لندن= (مدينة الضباب)، مع فارق ما بينهما؛ لأنَّ ضبابًا في الباحة ناتج عن عوامل جغرافية طبيعية، في حين كان الكم الهائل من احتراق الخشب وملوِّثاته، مع اندماجه مع الضباب في فصل الشتاء هو أحد أسباب تكوُّنه في لندن.
وعن ظاهرة الضباب في الباحة؛ يُلاحظ غياب أثره في النتاج الأدبي، خاصَّة الشعر مع كثرة مَن يزعمون قوله، ونظمه، وبثَّه بكل وسيلة.
فهل يُعقل أنْ يكون ما يُسمُّون بشعراء الباحة -مع كثرتهم- لا يرون في هذه الظاهرة -مع جلالها وجمالها- مجرَّد ظاهرة لا تستحق بيت شعر تجود به قرائحهم المفرطة في القول..؟!
يقول بدر شاكر السياب:
مِن خَللِ الضَّبابِ والمَطرِ
ألْمحُ عَينيكَ تَشعَّانِ بلَا انْتِهَاءِ
شعاعُ كوكبٍ يغيبُ ساعةَ السَّحَرِ
وتَقْطرَانِ الدَّمعَ فِي سُكونٍ
كأنَّ أهدابَهَا غُصُونٌ