هناك حقيقةٌ علميَّةٌ تصحبُ الصومَ، وهي تحقيقُ مكاسبَ بيولوجيَّةٍ وطبيَّةٍ لمَن يصومُ، وهذه المكاسبُ والمنافعُ ثبتت من خلالِ الدراساتِ والأبحاثِ العلميَّةِ، تم نشرهَا في مجلاتٍ علميَّةٍ عالميَّةٍ محكمةٍ.
إنَّنا في صيامِنَا للهِ لا نبحثُ عن هذهِ الأبحاثِ، ولا المكاسبِ، ولسنَا بحاجةٍ إليها لنتعبَّد اللهَ بها، إنَّما لإظهارِ أنَّ هناكَ حكمًا متعدِّدةً للعباداتِ التي من ضمنهَا الصومُ، ومكتسباتُ الصومِ للروحِ والنفسِ والجسمِ والعقلِ والقلبِ إنَّما هي تأكيدٌ لقولهِ تعالَى: (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، ففي هذه الآيةِ ربطٌ بين علمِ اللهِ بالخلقِ وحاجاتِهم ولطفِهِ وخبرتهِ سبحانه وتعالى بمَا يحتاجونهُ لأنفسِهم وأجسامِهم، فشرعَ عباداتٍ تحتوِي فيمَا تحتوِي عليهِ تحقيق مصالحَ للنفسِ والجسمِ، وأحد إدراكاتِ الأبصارِ في الحياةِ هي التدبُّر في النَّفسِ البشريَّةِ كمَا قال تعالى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ).
نعودُ إلى بيولوجيا الصَّومِ؛ لنوضَّح أنَّ الجسمَ البشريَّ يتعرَّضُ لترسُّبِ العديدِ من الموادِّ الضارَّةِ والسمومِ التِي تتراكمُ في خلاياه، وأنسجتهِ نتيجة تغذيةٍ غير صحيَّةٍ، إمَّا لكثرتِهَا وتكدُّسِهَا، أو لنوعيتهَا، فطيلةُ عامٍ كاملٍ والإنسانُ في حركةٍ تغذويَّةٍ أرهقَ بهَا أجهزتُه الهضميَّة، فتنال خلايَا جسمِهِ من تراكمِ السمومِ ما تطيحُ بهَا وتمرضهَا وتجعلهَا أسيرةً لحياةٍ معتلَّةٍ، وبالإضافةِ إلى سمومِ الأغذيةِ هناك سمومٌ تفرزهَا بعضُ الكائناتِ الدقيقةِ وهناكَ سمومُ الأدويةِ، وأخيرًا هناك مخلَّفاتُ الاحتراقِ الداخليِّ للخلايَا، والتي تسبحُ في الدَّمِ كغازِ ثاني أكسيد الكربون، واليوريا، والكريايتنين والأمونيا، والكبريتات، وحمض اليورك، ومخلَّفات الغذاءِ المهضومِ، والغازات السَّامةِ التي تنتجُ من تخمُّرهِ وتعفُّنهِ مثل الأندول والسكاتول والفينول، كلُّ هذه السموم هيأ الله لها في أجسامنا من يكون لها بالمرصاد، وهو عضو الكبد الذي يعمل على تنظيف الجسم منها، ويأتي دور الصيام في إزالته للسموم في كونه عاملا أساساً في تحويل كميات هائلة من الشحوم المختزنة في خلايا الجسم إلى الكبد، حتى تتم أكسدتها وينتفع بها، وتستخرج منها السموم الذائبة فيها، وتزال سميتها، ويتخلص منها مع نفايات الجسم.
إنَّ ممَّا ثبت بيولوجيًّا أنَّ الدهون القادمة من خلايا الجسمِ أثناءَ الصيامِ والمتراكمةِ في الكبدِ يساعد ما بها من الكوليسترول على زيادةِ إنتاجِ مركباتِ الصفراءِ في الكبدِ، والتي بدورها تقومُ بإذابةِ مثل هذه الموادِّ السامَّةِ والتخلُّصِ منها مع البرازِ، وبالتَّالي فإنَّ الصيامَ بعملِهِ البيولوجيِّ هذا يؤدِّي خدمةً جليلةً للخلايا الكبديَّةِ، بأكسدتهِ للأحماضِ الدهنيَّةِ فيخلِّص هذه الخلايَا من مخزونِهَا من الدهونِ الضارَّةِ؛ ممَّا يجعلهَا أكثرَ نشاطًا وحيويَّةً، ويكونُ بالتَّالي الصيامُ سببًا بيولوجيًّا واقيًا للمجتمعاتِ من أمراضٍ عديدةٍ من أبرزها السُّمنة المفرطةُ، وتصلُّب الشرايينِ، وارتفاعُ ضغطِ الدَّمِ، والسرطان، وجلطات القلب والمخ، وغيرها ممَّا قد يكلِّف المجتمع عناءً صحيًّا كبيرًا، وهو خير كما قال تعالى: (وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ) وكما وردَ عن الرسولِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- في الحديثِ الصحيحِ أنَّه قال: (والصَّومُ جنَّةٌ) أي وقاية من الأمراضِ عبر بيولوجيا الجسمِ كما أنَّ له فوائدَ أُخرى متعدِّدة شرحتْ في مواضعَ أُخرى روحيَّة وتربويَّة ونفسيَّة.