وضعَ الإسلامُ ضوابطَ لحريَّةِ الرَّأي والتعبيرِ؛ لئلا تخرج عن مداه، وتتجاوز الحدودَ، فيقع صاحبهَا في المحظورِ، ويتعدَّى على الذاتِ الإلهيَّة، أو ينال من أنبياءِ اللهِ ورسلهِ وكتبهِ وملائكتهِ، ويتجاوز حقوقِ الآخرين، فيلحقُ بهم الأذَى في مشاعرِهم وأديانِهم ومعتقداتِهم، أو أعراضِهم وأموالِهم. ومن هذه الضوابط:
1. عدمُ التفكُّر في اللهِ: فكما أعطَى الإسلامُ للإنسانِ حريَّة التفكيرِ، وشحذَ همَّته ليتفكَّر ويتدبَّر، فقد منعهُ من أنْ يُفكِّرَ فيما هو أكبر من قدراتِه، وهو التفكيرُ في ذاتِ اللهِ -سبحانه وتعالى- وذلك لقولهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «تفكَّرُوا في خلقِ اللهِ، ولا تفكَّرُوا فِي اللهِ».
2. لقدْ أمرَ الإسلامُ بالتفكيرِ في كلِّ ما فيه الخيرُ والصَّلاح للفردِ والمجتمع، أمَّا التفكيرُ السيئُ، فقد أمرَ الإسلامُ بالإحجامِ عنه، وقد تجاوز الله تعالى عن هذهِ الأمَّة ما تحدِّث بها نفسَها، لقولهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- :»إِنَّ اللهَ تجاوزَ لأمَّتِي عمَّا حدَّثتْ بهِ أنفسَهَا ما لمْ تعملْ أو تتكلَّمْ بهِ».
3. عدمُ التعدِّي على الذَّاتِ الإلهيَّة، بوصفها بمَا لا يليقُ، أو رسمها، لقولهِ تعالى: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
4. عدمُ التعدِّي على أنبياءِ اللهِ ورسلهِ وكتبهِ وملائكتهِ.
5. أنْ يطابقَ قوله مبادئَ الإسلامِ، قال تعالى: (وَلاَ تقُوُلُوا عَلَى اللهِ إلَّا الحَقَّ)، وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «لَا يُؤمِنُ أَحْدُكُم حَتَّى يَكُونَ هَوَاهُ تَبعًا لِمَا جِئتُ بِهِ».
6. مراعاةُ القيمِ الإسلاميَّةِ، فلا كذبَ، ولا غيبةَ، ولا نميمةَ، ولا زورَ، ولا فُحشَ، ولا همزَ، ولا لمزَ، قال تعالى: (وهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ القَوْلِ وَهُدُوا إلَى صِرَاطِ الحَمَيدِ).. وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «المُسلمُ مَن سَلِمَ المسلِمُونَ مِن لسانِهِ ويدِهِ»، وقال: «ليسَ المؤمنُ بالطَّعَّانِ، ولَا اللعَّانِ، ولا الفاحشِ البذيءِ».
7. السترُ وعدمُ إشاعة الفاحشةِ، وعدمُ الخوضِ في أعراضِ النَّاس لقوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لُهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنيَا وَالآخِرةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إِنَّ دماءَكُم وأموالَكُم وأعراضَكُم حرامٌ عليكُم كحرمةِ يومكِم هذَا...».
8. أنْ يكونَ القولُ صادقًا لا كذبًا، وأنْ يكونَ سديدًا ثابتًا مبنيًا على الحقيقةِ لا على الظنِّ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا)، وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إَِنَّ بَعْضَ الظِّنِّ إِثْمٌ)، وقال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «لَا يُؤمِنُ العَبدُ الإِيمَانَ كلَّهُ حَتَّى يتْركَ الكَذِبَ فِي المزاحِ، ويتركَ المراءَ، وإِنْ كانَ صَادِقًا».
9. أنْ يكونَ خيرًا لا شرَّ فيه: قال -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «مَنْ كَانَ يُؤمِنُ بِاللهِ واليومِ الآخرِ فليقلْ خيرًا أوْ لِيصْمتْ».
10. أنْ يكونَ القولُ حقًّا وعدلًا لقوله تعالى: (وَإِذَا قُلْتُمْ فاعْدِلُوا ولوْ كانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ).
11. مراعاةُ صلاحِ النيَّةِ وحسنِ القصدِ لقوله -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم-: «إِنَّمَا الأَعْمالُ بالنِّياتِ، وإنَّمَا لكلِّ امٍرئٍ مَا نَوَى».
12. ألاَّ يخوض فيمَا ليسَ له بهِ علمٌ، لقوله تعالى: (لاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ علمٌ إنَّ السَّمْعَ والبَصَرَ والفُؤادَ كُلُّ أولَئِكَ كَانَ عنْهُ مَسْؤُولًا).
13. تحرِّي الصِّدق في تلقِّي الخبر، قبل التَّعبيرِ عنه ونشرهِ، فقد ينقله مغرضٌ فاسقٌ، يسبِّب أزمةً اجتماعيَّةً أو سياسيَّةً أو اقتصاديَّةً، تعودُ على بلده ومجتمعهِ بالخسارةِ والضَّررِ، يقول تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فعَلْتُمْ نَادِمِينَ).
ووقفةٌ منَّا أمامَ ضوابطِ حريَّة الرَّأي والتَّعبير في كلِّ المواثيقِ الدوليَّة، وأمامَ ضوابطِ حريَّة الرَّأي والتَّعبير في الإسلامِ، نجدُ أنَّ تلكَ المواثيقَ لم تأتِ بجديدٍ، فقد سبقهَا الإسلامُ بأربعة عشر قرنًا، بل كان أكثرَ حرصًا على الصَّالحِ العامِّ، في تحرِّي الإنسان الصدقَ فيمَا يتلقَّاه من أخبارٍ، وأنْ لا يبني رأيه على الظُّنونِ، وفي عدمِ الخوضِ فيما ليسَ لهُ بعلمٍ، وأنْ يقولَ خيرًا أو يصمتْ، وبذلك كفلَ الإسلامُ كلَّ إيجابياتِ حريَّة الرَّأي والتَّعبير، وحمَى الإنسانيَّةَ من سلبياتِها وأضرارِها.
وهكذَا نجدُ أنَّ الحريَّة التي كفلَها الإسلامُ لأهلِ الأرضِ؛ لم يُعرفْ لها نظيرٌ في تاريخِ العالم، وهذه الحريَّة الفكريَّة التي نادَى بها الإسلامُ هي التي صاغتهَا هيئةُ الأممِ المتَّحدةِ في ميثاقِ حقوقِ الإنسانِ في المادةِ (19) عن حريَّة التَّعبير، والتي جاء فيهَا: (لكلِّ شخصٍ الحقُّ في حريَّة الرَّأي والتَّعبير...)، والذِي تمَّ إعلانُه في ديسمبر عام 1948م، فجميعُ المواثيق الدولية جاءت في عام 1948، وما تلاه من أعوام، وهذا يعني أنَّ المجتمع الدولي والعالم الغربي لم يعرف حرية التعبير إلا في نهاية النصف الأول من القرن العشرين، بينما عرفها المسلمون في أوائل القرن السابع الميلادي، أي عهد المسلمين بحرية الرأي والتعبير منذ هذا القرن، بمعنى أنهم سبقوا العالم في معرفتها بأربعة عشر قرناً، وفي تنفيذها وتطبيقها، ومع هذا نجدُ من الأوروبيِّين مَن يتَّهم المسلمِين بسوءِ فهمهم لحريَّة التَّعبير، وهذه مغالطةٌ يدحضهَا ما جاءَ في القرآنِ والسُّنَّةِ.