إذا كانت الضحك مظهراً من مظاهر القدرة الإلهية.. والفكاهة الضاحكة مطلباً من مطالب حياتنا اليومية؛ فإن الكثرة الكاثرة من القراء لا يعرف عن عباس محمود العقاد إلا الجد، والجد الصارم، فهو رجل لا يصبح ولا يمسي إلا على الجد والجد وحده، فلا تفتر شفتاه بضحكة واحدة، إلا بعد استغفار واغتصاب.
كتب العقاد رسالة صغيرة بعنوان «جحا الضاحك والمضحك»، قال فيها: «ونحن في هذه الرسالة نريد أن نعرف جحا، ونرى أن نعرف الإنسانية كلها بهذه المعرفة».
وعلى هذا فالضحك كـ(خصيصة) عند صاحبنا العقاد جد وليست هزلاً، كما أنها ليست للاستخفاف والتندر؛ فمعرفة أسباب الضحك مقياس صادق لسبر أغوار النفس؛ لأن الأمر المحزن قد لا نحار كثيراً في تعليله.
يعقد العقاد فصلاً في الرسالة ذاتها عن سبب الضحك، عارضاً فيه آراء لسبنسر، وبرجسون وفرويد، ممثلاً لكل رأي من تلك الآراء بما يتسق معه، مع طرح أسبابه ومبرراته، فإذا هو سبب واحد يتلخص في «المفاجأة»؛ لأن المفاجأة هي التي تعوق الإحساس عن مجراه وتحوله إلى العضلات، وبهذا فهي كافية وحدها للضحك، ولا حاجة معها إلى استثناء الألم؛ لأن الألم استثناء لكل شعور، وليس بالاستثناء للمضحكات دون سواها.
ويسوق العقاد مثالاً لذلك، أناس يجلسون في مأتم، وتحدث على مشهد منهم مفاجأة مضحكة، فقد يضحك الغرباء عن المأتم، وقد يضحك الصغار والحاضرون وإن كانوا من أهل الميت، ولكن الكبار المفجوعين لا يضحكون؛ لأن شعورهم يفيض في مجراه، ولا تشغله المفاجأة المضحكة حتى تنتقل من الحس إلى حركة العضلات، وربما أثارهم وأغضبهم أن يروا أمامهم أحداً يضحك وهم مغلوبون بالأسى والفجيعة.
ويؤكد العقاد على عنصر المفاجأة بوصفها سبباً للضحك كما يلاحظ في قوله: «فالجواب المسكت مفاجأة، والحيلة التي ترتد على صاحبها مفاجأة، والتخلص السريع بالمغالطة التي تخالف المنطق المألوف مفاجأة».
في كتاب «المطالعات» يقول العقاد: «فنحن نضحك مثلاً ممن يتغنى بالسماحة والجود حتى إذا دعي إلى البذل ظهر منه البخل، وحار كيف يتخلص من مأزقه ويفلت من الشرك الذي وقع فيها بسوء رأيه، وممن يتصدى لختل الناس فإذا هو مختول من أهون سبيل».
فالضحك هنا عبارة عن مقارنة سريعة مفاجئة ما بين حال نراها وحالة كاذبة مدعاة، ومقارنة ما بين الظاهر والباطن، وبين الحاصل والواجب.. ولا يقوى على هذه المقارنة في سرعة وفطنة غير الذهن المطبوع على تمثيل الأشياء في صورها الحقيقية المثلى، ووجوهها الصحيحة الواجبة، ومن هنا يغلب أن يكون السخر باعثاً قوياً على فعل الواجب ومراعاة اللياقة والوقوف على حد الكرامة.. ألا ترى أن الناس يقولون لمن ينصحون افعل هذا لئلا يضحك الناس منك.