دأبَ أبناؤنَا الطُّلابُ وبناتُنَا الطَّالباتُ في المدارسِ على ممارسةِ سلوكِ الغيابِ الجماعيِّ في الأسبوعِ الأخيرِ من أيِّ فصلٍ دراسيٍّ، وحتَّى قبل الفصولِ الدراسيَّةِ الثَّلاث، والتِي وضعَهَا البعضُ حجَّةً لطولِ أيَّامِ الدراسةِ. وفي شهرِ رمضانَ بالذَّاتِ يبلغُ الغيابُ ذروتَهُ، بالرغمِ من تهديداتِ الوزارةِ بحسمِ درجاتٍ من المواظبةِ قد تبلغُ درجتَين في كلِّ يومِ غيابٍ؛ ممَّا يؤثِّرُ -حتمًا- على المعدَّلِ التراكميِّ للطالبِ.. ومعَ ذلكَ فإنَّ الأهلَ والطُّلابَ يضربُونَ عرضَ الحائطِ بكلِّ تلكَ التهديداتِ، ولا يلقُون لهَا بالًا!.
ولكنْ دعونَا نناقش القضيةَ بموضوعيَّةٍ، فليسَ السَّببُ تنمُّر الأهالِي كمَا ذُكرَ في بعضِ الصُّحفِ ومواقعِ التواصلِ الاجتماعيِّ، وأنَّهم هُم الذين يُشجِّعُونَ على الغيابِ الجماعيِّ، وخاصَّةً في شهرِ رمضانَ.. ومن وجهةِ نظرِي فإنَّ السَّببَ في ذلكَ هُو ثقافةُ مجتمعٍ دأبَ على سهرِ اللَّيلِ، ونومِ النَّهارِ، وهذَا يختلفُ عن معظمِ البلادِ الإسلاميَّةِ وغيرِ الإسلاميَّةِ، والتِي تجدُ سكونَ اللَّيلِ يُخيِّمُ على المدنِ، ولا تكادُ تجد أيَّ مطعمٍ أو مقهى مفتوحًا السَّاعة العاشرة مساءً؛ بينمَا لدينَا -نحنُ- كلُّ صخبِ الحياةِ بضجيجِهَا، وأسواقِهَا، وفعالياتِهَا، والتنافسُ المريعُ من بعضِ القنواتِ الفضائيَّةِ على إنتاجِ مسلسلاتٍ ودرامَا بشكلٍ مكثَّفٍ في رمضانَ، مع أنَّها تُعادُ خلالَ العامِ!!
هذا فضلًا عن المقاهِي التِي تفتحُ أبوابهَا حتَّى صلاةِ الفجرِ. وحتمًا مَن يشربْ قهوةً في تلكَ الأمسياتِ لنْ يخلدَ للنومِ إلَّا صباحًا. وهنَا تكونُ الطَّامَّة، فالنَّومُ سلطانٌ. ومن الصَّعبِ، أو ربَّما المستحيلِ للبعضِ الاستيقاظُ للذهابِ إلى المدرسةِ.
ولو افترضنَا جدلًا، بضبطِ الأسرةِ للبرنامجِ اليوميِّ للطالبِ، ونومهِ مبكرًا، والاستيقاظِ للدَّوامِ المدرسيِّ في حينهِ، فماذَا سيجدُ الطَّالبُ في المدرسةِ؟!
حدَّثتنِي إحدَى الأمَّهاتِ الأمريكيَّاتِ أنَّها كانتْ حينَ تريدُ معاقبةَ طفلهَا تُهدِّدهُ بمنعهِ للذهابِ إلى المدرسةِ، وبذلكَ يلتزمُ الابنُ بمَا هُو مطلوبٌ منهُ؛ لأنَّ المدرسةَ -من وجهةِ نظرِهِ- أجملُ مكانٍ يقضِي فيهِ يومَهُ، حيثُ البيئةُ الجاذبةُ والمحفِّزةُ، والأنشطةُ التفاعليَّةُ مع الزملاءِ والمعلِّمين، والساحاتُ والفصولُ المهيَّأةُ للاستثارةِ والتعلُّمِ النشطِ وخلق الإبداعِ للطلابِ.. لو توفَّرت هذهِ المقوِّماتُ، أظنُّ لنْ يكونَ هناكَ غيابٌ جماعيٌّ، ولرأينَا تقاطرَ الطلابِ والطالباتِ على مدارسِهِم كمَا يتقاطرُ النَّحلُ على خليَّةِ العسلِ.
والحلُّ -من وجهةِ نظرِي- جعلُ الأسبوعِ الأخيرِ هُو أسبوعُ درجاتِ المشاركةِ في الأنشطةِ المتنوِّعةِ، ولعلَّ المسرحَ المدرسيَّ لم يُفعَّلْ بالدرجةِ الكافيةِ في مدارسِنَا لخلقِ الإبداعِ المسرحيِّ والعلميِّ، فهناكَ إستراتيجيَّةُ (لعبِ الأدوارِ)، أو تمثيلِ الأدوارِ، والتي تُعتبرُ من أهمِّ الأنشطةِ التي تساعدُ الطالبَ على اكتسابِ الخبراتِ والعلومِ والاتجاهاتِ؛ لأنَّها تسمحُ بالتفاعلِ النشطِ، وهي تستخدمُ في جميعِ الموادِّ الدراسيَّةِ، وتحتاجُ من المعلِّمِ وطلابِهِ الإعدادَ، وترشيحَ الممثِّلين حسب كلِّ طالبٍ وشخصيَّته، ومرحلة التجريبِ والملاحظةِ، ثم مرحلةِ التمثيلِ، ثم المناقشةِ والتقويمِ.. وأخيرًا يكونُ الأسبوعُ الأخيرُ هو إعادة التمثيليَّاتِ، أو المسرحيَّاتِ على المسرحِ المدرسيِّ، وأمامَ جميعِ الطلابِ.
هنَا يظهرُ المبدعُون في التمثيلِ، كما يتم مراجعةُ الدروسِ بطريقةٍ محبَّبةٍ وإبداعيَّةٍ، بدلًا من المراجعةِ الروتينيَّةِ المملَّةِ. كمَا لابُدَّ من إعدادِ البيئةِ التعليميَّةِ والإمكاناتِ الماديَّةِ اللازمةِ من معلِّمي ومشرفِي النشاطِ؛ من توفُّرِ جدارٍ متحرِّكةٍ ومقاعدَ يمكنُ إعادة تشكيلهَا حسب الموقفِ التعليميِّ المسرحيِّ. كمَا يظهرُ التفاعلُ بين الطلابِ والمعلِّمين وخلقِ بيئةٍ جاذبةٍ تُوفِّرُ فرصًا للطلابِ للحوارِ والمناقشةِ، وإبداءِ الرأي في مواقفَ شبهِ حقيقيَّةٍ، واكتسابِ مهاراتِ احترامِ آراءِ الآخرِين، كمَا أنَّها ترفعُ من ثقةِ الطالبِ في نفسهِ، ومفهومهِ عن ذاتِهِ، وهي علاجٌ لكثيرٍ من مشكلاتِ الخجلِ والانطواءِ عندَ التلميذِ. وبذلكَ نجعلُ حضورَ الطلابِ عن رغبةٍ حقيقيَّةٍ؛ لأنَّها تُضفِي جوًّا من المرحِ والسعادةِ، وتخفِّفُ عنهم ضغوطَ المناهجِ، وتحقِّق ارتياحًا نفسيًّا. كما أنَّها تساعدُ على اكتشافِ مواهبِ الطلابِ وتعزيزهَا، وإلى كلِّ مَا يشبعُ ميولِهم وحاجاتِهم.
كمَا أنَّ المسابقاتِ الثقافيَّةَ والفنيَّةَ في الرسمِ والتشكيلِ، أو في القراءةِ لكتابٍ ومناقشتِه وتلخيصِه، ثمَّ طرحِه على الزملاءِ في المدرسةِ، أو كتابةِ قصَّةٍ أو مقالٍ لتدعيمِ التعلُّم في اللغةِ العربيَّةِ، أو الإنجليزيَّةِ، تُشجِّعُ على الإبداعِ اللغويِّ. وهنا ندعمُ التعلُّمَ السليمَ، ونقلِّلُ من الفاقدِ التعليميِّ الذي ينتجُ عن الغيابِ، ويصبحُ لدينَا مبدعُون في الفنِّ والأدبِ والخطابةِ، والإلقاءِ والمسرحِ.
كمَا لا داعيَ للتهديدِ بالدرجاتِ، وربطِ تطبيقِ بصمةِ العينِ والوجهِ، وسوارِ المعصمِ بنظامِ نور، والعملِ على دراسةِ فرضِ غراماتٍ على أولياءِ الأمورِ -كما اقترحَ أحدُهم ذلكَ-.
والحل -في اعتقادي- يكمن في توفير أنشطة تستوعب طاقات الطلاب والطالبات وقدراتهم، وتحقق ذاتهم، وتعزز السلوك لديهم، وهي من أهم نظريات التعلم لدعم حضور الطلاب والطالبات، وحبهم للمدرسة، وبذلك نحيي الأسبوع الميت.. فهلْ إلى ذلكَ من سبيلٍ؟!