ورد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «ما أكل أحد طعاماً خيراً من أن يأكل من عمل يده، وأن نبي الله داود كان يأكل من عمل يده»، رواه البخاري وفي الصحيح.
أمَّلتُ الزمن البعيد لماضٍ امتدَّ إلى ما يقرب من خمسينَ عامًا، وجالَ بالذاكرة أولئك الرجال الذين كانوا يرتادون مطعم والدي -رحمه الله- صباحًا للإفطار، بشارع إبراهيم الخليل في مكة المكرمة، وهم من أرباب المهن اليدويَّة المنتجة، فكان منهم الجزار، والنجَّار، والحدَّاد، والطبَّاخ، والبنَّاء، والسمكري، والصائغ، وحتى «القبوري»، وهو ذلك الشخص الذي يقوم بحفر القبور وتهيئتها لدفن الموتى.
هؤلاء كانوا من أبناء البلد يشاركهم القليل من أبناء الجاليات المهاجرة إلى مكة بغرض الجوار الكريم، ثمَّ أفاء الله على بلدنا بما أفاء من خيرات بعد اكتشاف النفط، فأمَّها الكثير من أبناء الشعوب الأخرى للعمل، حتَّى وصلت العمالة الوافدة إلى أكثر من مئتي جنسية.
في تلك الفترة؛ ابتعد شبابنا عن ممارسة الأعمال المهنية، كان من نتيجته إفراز ثقافة الاتكالية والاعتماد على الآخرين، بالرغم من وجود بعض النماذج المشرفة من الشباب السعودي الطموح.
وعن أهمية العمل في حياة الإنسان، أستشهد بما قاله الكاتب والفيلسوف الفرنسي الذي عاش في عصر التنوير «فرانسوا فولتير»: (إن العمل يُبعد عن المرء ثلاثة شرور: السأم، والرذية، والحاجة).
شخصياً وأنا طالب في الجامعة؛ كنت أعمل في إجازة الحج مطوفاً للحجاج، وفي إسكانهم، وسائقاً لحافلة نقل، وغيرها من أعمال موسم الحج، وكنت أكسب من كل ذلك مبالغ كبيرة بمنظور تلك الفترة.
وإذا ما عدنا إلى البلدان التي خطَّطت لمستقبلها، ووضعت لذاتها رؤية استشرافيَّة منضبطة، كالهند، واليابان، وماليزيا، وكوريا، وروندا، وفنلندا، وغيرها من الدول، نجد أنها أصبحت مقصدًا لأبنائها وغيرهم، بعد ما كانت بلداناً مُصدِّرة للعمالة، ومن ثمَّ حدثت هجرة أبنائها إليها بعد أن كانت منها.
وهذا يجعلني أقول بكل يقين لأبنائنا: إن الوقت قد حان، والزمن قد أزف لكي تسهموا في تنمية بلدكم، وأن لا تستعيبوا أي عمل يوفر لكم دخلاً معقولاً، فقد كان الأنبياء -صلوات الله عليهم جميعاً- يعملون ويأكلون من عمل أيديهم، فمنهم من عمل بالنجارة، ومنهم من عمل بالحدادة، ومنهم من عمل بالرعي، ومنهم من عمل بالخياطة، ومنهم من عمل بالتجارة، ومنهم من عمل بالزراعة، ومنهم من عمل نساجاً... إلخ. وفي هذا رسالة قوية إلى أن العمل له مكانة كبيرة في الإسلام وجزاؤه عظيم.
ولا أعني بذلك أن يتجه جميع شبابنا للعمل المهني، ولكني أقصد التوزيع السليم، بحيث يكون فيهم مَن يسهم بعلمه وفكره، وفيهم مَن يسهم بعمل يده، فيحصل التكامل والتكافل، وتتحقق حكمة الخالق سبحانه وتعالى الذي فَضَّل بعضَ الخلق على بعض؛ ليتخذ بعضهم بعضًا سخريًّا، ويحدث التوازن في سيرورة الحياة الدنيا.
فعلى شبابنا الواعد أن يشحذَ الهمَّة، ويشدَّ العزم وينطلقَ؛ ليتسنَّى له الارتياد المنشود - بإذن الله- إقليميًّا وعالميًّا في شتّى المجالات.