كانَ ذلكَ الرَّجُلُ يبدأُ يومَهُ بإعدادِ العشراتِ من ترامسِ الشَّاي والقهوةِ، وكذَا جلبِ الخبزِ والتمرِ، ثمَّ ينطلقُ بكلِّ ذلكَ إلى «دربِ السُّنَّةِ»، حيثُ اعتادَ أنْ يجلسَ بمُحيَّاهُ الطَّيبِ وابتسامتِهِ الصافيةِ، وحولَهُ تلكَ التَّرامسُ؛ ليقومَ بتوزيعِ مَا حملَهُ من شايٍ وقهوةٍ وخبزٍ وتمورٍ على العابرِينَ من ذلكَ «الدَّربِ أو الطَّريقِ» الواصلِ بينَ المسجدِ النبويِّ الشَّريفِ ومسجدِ قُباءٍ في المدينةِ المنوَّرةِ.
*****
* إنَّه الشيخُ العابدُ الزَّاهدُ الحاجُّ أبو السِّباعِ إسماعيل الزَّعيم، الذِي كانَ يفعلُ ذلكَ لأكثرِ من 40 سنةً طواعيةً ومجَّانًا وبحثًا عن الأجرِ والثوابِ فقطْ؛ ليسكنَ قلوبَ أهلِ المدينةِ النبويَّةِ وزوَّارِهَا؛ ولكنَّ تلكَ الرحلةَ الإنسانيَّةَ الاستثنائيَّةَ والطويلةَ جاءتْ نهايتُهَا يومَ الثلاثاءِ الماضِي؛ بوفاةِ بطلِهَا -رحمَهُ اللهُ تعالَى، وأسكنَهُ فسيحَ جنَّاتِهِ- عن عُمرٍ تجاوزَ التسعِينَ؛ ليُصبحَ حديثَ المجتمعِ المدينيِّ، وتصدَّر ترند حساباتِهِ في مواقعِ التواصلِ، التي تسابقتْ بتأبينِهِ والدُّعاءِ لهُ.
*****
* وهنا تلك الرحلة الإنسانية لـ(لذلك الشيخ)، تحمل وتقدم العديد من الرسائل، أولها أن عمل الخير ودوامه -ومهما كان بسيطاً- هو الأبقى أثراً وتأثيراً، وهو الذي يرسم الصورة الحسنة للإنسان، فما أحوجنا جميعاً إلى المبادرة بصنع الخير، ومساعدة الآخرين -ولو بالقليل- فالدين المعاملة، أما صلاة العبد، وصيامه، وحجه، فهي له وحده، ولا تهمُّ الناس، ولا تفيدهم بشيء.
*****
* أيضًا الشيخُ إسماعيل -رحمَهُ اللهُ- من أشقائِنَا السوريِّين، حيثُ هاجرَ إلى المدينةِ المنوَّرةِ، وسكنَهَا منذُ العامِ 1982م، قادمًا من مدينةِ (حماةٍ السُّوريَّةِ)، فاحتضنتهُ مدينةُ رسولِ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- ليعيشَ في كنفِ مجتمعِهَا، ويصبحَ أحدَ أيقوناتِهِ ورموزِهِ؛ لتأتِي رسالةُ التأكيدِ على مَا يتميَّز بهِ المجتمعُ المدينيُّ من طيبةٍ وإنسانيَّةٍ ومحبَّةٍ وقبولٍ للآخرِينَ؛ وقدرةٍ على التعايشِ معهُم؛ كيفَ لَا وهُو الذِي قَدَّم قبلَ أكثرِ من 1445 سنةً أعظمَ وأصدقَ مبادرةٍ عرفتهَا البشريَّةُ، وهِي (المؤاخاةُ بينَ المهاجرِينَ والأنصارِ).
*****
* أخيرًا يَا مَن تبحثُونَ ليلَ نهارٍ، وصباحَ مساءٍ عن التِّرندِ بأيَّةِ وسيلةٍ حتَّى ولوْ كانَ الثَّمنُ مُسلَّماتِ دينِكُم وأخلاقيَّاتِكُم وخصوصيَّاتِكُم الأُسريَّةِ؛ فـ(حكايةُ أبو السِّباعِ رحمَهُ اللهُ) تقولُ لكُم: (كفَاكُم عبثًا)؛ وتدعُوكُم لزراعةِ الخيرِ؛ فحصادهُ هُو الترندُ الأفضلُ، وهُو الذِي يكتبُ السيرةَ الأطولَ للإنسانِ، وهِي التِي تبدأُ دائمًا بوفاتِهِ، وسلامتكُمْ.