Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

أدب في الليث: صالون من الذكريات

A A
سمعتم ربما عن صالون أدب في الليث؛ مبادرة جميلة تنظمها الموسوعة العالمية للأدب العربي (أدب) بدعم من هيئة الأدب والنشر والترجمة، وتضم زيارات ثقافية وأدبية لعدد من مدن المملكة ومحافظاتها.

كنت ضيفاً على الليث؛ ولم يعلم المضيفون أن لي تاريخاً معهم، تاريخاً قديماً، بدأ يتقافز للذاكرة بمجرد أن أبلغني الزملاء بالزيارة. قبل أكثر من ثلاثين عاماً، قضيت وإخوتي عامين هناك، قرر أبي فجأة فوجدنا أنفسنا هناك. نحن أبناء جدة، وصخب جدة، وغرور جدة؛ كان علينا أن نتكيف مع هذه البلدة الصغيرة، ومع بحرها القريب، وعادات أهلها الطيبين.

الهرولة حتى البحر، والعودة في نفس الاتجاه؛ هل تصدقون أن أبي كان من بدأ هذا النشاط الصباحي، أنا لا أكاد أصدّق، لولا أني أتذكره في الأزرق البحت، يسبقنا ونلاحق ظل ابتسامته البيضاء، لم يكن أبالي هلاليّ الهوى، لكن الزرقة كانت تليق به، ويليق بها. (هل كان ينظر لنا أهل الليث، كما ننظر للغرباء شكلاً وطباعاً من أبناء الفرنجة؟!).

منذ وطأنا أرض الليث مع ضيوف الصالون ونحن ننعم بكرم أهلها؛ احتفاء، وترحيباً، وفرحاً، وجدولاً مكتظاً بالفعاليات. أما الأكل فكان حكاية أخرى؛ كان يوماً كاملاً بين أطايب الليث بحراً وجواً وبراً. (من قال إن الوجبات اليومية ثلاث، لم يزر الليث بعد).

حين زرت العين الحارة أول مرة كانت تجويفاً صخرياً في مكان بعيد، أثارني البخار الذي يصعد، لكن ما رأيته هذا الأسبوع أثارني أكثر. تحول المكان إلى منتجع متكامل الشروط، كالذي لاحظته في ألمانيا، مع بعض الاستثناءات طبعاً. ظل الأستاذ الجميل عبدالله البصراوي يشرح لنا تاريخ المكان وإنسانه، وكان كل من يصاحبنا يقول إنه تلميذ البصراوي. بدا لي الرجل شاباً ثلاثيني القلب والقالب؛ ربما كان كذلك!

في الطريق لوحةٌ تقول (الحسينية)، قفز القلب لها مثل طفل. قرية نائية مدفونة بين الرمال كانت تعرّف أبي على أهلها ونقاء أهلها، فأصبحنا نزورهم ويزوروننا. كانت الحسينية أعجب ما شاهدت في الليث تلك الأيام؛ غرف صفيحية بسيطة، وعلوم رجال لم أعهدها، وحياة كاملة على الرمال؛ على عشاء الكرام، تجرأت وأكلت لسان الذبيحة، فصاح القوم: شاعر! وضحك أبي. بعدها بعامين نفث صدري أول قصيدة؛ وكانت هجاءً للأسف. ننام على الرمال أيضاً، ونقضي الليل كله في التأمل والتفكير، أحب مزاولة هذا الطقس حتى اليوم، ولي فيه -منذ ليالي الحسينية- قصة لا أعتقد أن الرقيب يسمح بها.. ستر الله أحسن. حامد الإقبالي؛ مثقف وباحث مميز من أهل الليث، استضافنا في منزله، وأهدانا كتبه المثيرة في طرحها، وكان النقاش في دارته حامياً وشيقاً.. قيل لي إنه من الحسينية، ولن أستغرب، فهو حسن محسن.

قبل الغروب كان شاطئ الليث يختال قربنا؛ شاطئ مطور، وجميل، ويجذب الناس، ابتهجت وأنا ألاحظ ازدحام المكان. على البحر؛ تذكرت إبراهيم الفقيه! لماذا؟ لست أعلم. بدأت علاقتنا بهذا المنزل الكريم في الليث. صادق أبي الأستاذ إبراهيم، وصادقنا نحن أبناءه، وأحببناهم. صرنا كالعائلة الواحدة؛ كان يطيب ليوسف ابنه أن يذيقني ملح السبخة ويلطخ وجهي بالطين الرطب، كان هذا طقسه اليومي المفضل ونحن عائدان من المدرسة. (جلسة سبا وعناية بالبشرة). زاد الأمر فاشتكت أمي لأمه، وتوقف يوسف.. عن مردغتي، لا عن صداقتي! مع نسيم البحر اللطيف مرني طيف أستاذي إبراهيم الفقيه، ولا عجب.. فكلاهما يبعث على الطمأنينة وراحة البال.

في الصالون مساء وجدنا القوم أعدوا العدة؛ في قاعات المركز الحضاري الواسعة والجميلة، احتشد مثقفو المنطقة ومثقفاتها، وكنت أرى وجه أبي منعكساً في الوجوه، خشيت أن أبكي. دار الحوار، سمعنا شعراً رائعاً، ونقاشاً ثرياً حول تاريخ الليث، وحضرتْ بالطبع فنون المنطقة؛ مجموعة من الشباب غنوا لنا ورقصوا بألوان المجرور والرجز والعرضة والمزمار، كرنفال شعبي تقافزت معه قلوبنا.

حين وضع الهريفي الكرة في شباك كوريا، انفجر شلال فرح، خرجنا نجوب شوارع الليث، وبين الحشود كان أستاذ الرياضيات يرقص ويغني.. كان مشهداً مهيباً، اختلطت فيه هيبة المعلم مع نشوة المناسبة، أحببت ذلك الأستاذ ليلتها أكثر، ولا أزال. ذلك الأستاذ توقع أن أصبح لاعباً شهيراً.. واليوم أعود إلى الليث شاعراً.. لعبت به الحياة!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store