- يتذبذبُ الإنسانُ بين حالتيْنِ لا خلاصَ منهمَا: حنينهُ للعُزلةِ.. وحاجتُه للنَّاسِ. ففِي العُزلةِ يكتشفُ نفسَهُ، ويختلِي بتأمُّلاتِهِ، ويتعافَى من الصَّخبِ.. وباختلاطِهِ بالنَّاسِ، تتكوَّنُ شخصيَّتهُ وتُشبَعُ حاجاتُهُ الجسديَّةُ والعاطفيَّةُ والذِّهنيَّةُ. ينبِّهُ (آدم سميث) على الأَهمِّيةِ الاجتماعيَّةِ للفردِ خلالَ سنواتِ تنشئتِهِ فيقولُ: «الَّذِينَ يترعرعُونَ في عُزلةٍ، لنْ يتعلَّمُوا مَعرفةَ ذواتِهِم على الإطلاقِ. نحنُ بحاجةٍ إلى عيونِ الآخرينَ أنْ ترعانَا».
- الأنَا.. تنتجُ في الحقيقةِ عن علاقاتِنا بالآخرِينَ، وليسَ من ذواتِنَا الدّاخليَّةِ. إنَّ الآخرِينَ -كمَا يُشيرُ سارتر- هُم الجحيمُ فعلًا، لكنَّهم يُحدِّدُونَ هويَّتنَا ومشاعرَنَا وانفعالاتِنَا وتصرُّفاتِنَا. يجعلونَنَا نحنُ، والآخرونَ، وأنَا.
- نحنُ نقعُ في فخِّ شهوةِ تحليلِ تصرُّفاتِ النَّاسِ وردودِ أفعالِهم، بالرُّغمِ مِن نقصِ حساسيَّتنَا تجاهَ مشاعرِهِم وقيَمهِم واضطراباتِهِم وتعابيرَ وجوهِهم ولغةِ أجسادِهم.. فنتعجَّلُ الحُكمَ عليهِم، ونخلقُ بيننَا وبينهم جفاءً وعداءً، وصراعاتٍ لا داعيَ لهَا. نحنُ سُجناءُ لُغتِنَا مهمَا ابتدعنَا من تعابيرَ وألفاظٍ.. لا فائدةَ. ولسوفَ يبقَى لدينَا مشاعرُ لا يمكنُ التَّعبيرُ عنهَا إلَّا بالبُكاءِ!.
- نتيجةُ الخوفِ والتوجُّسِ، والقلقِ من إبداءِ المَشاعرِ والمَخاوِفِ والأفكارِ، يظنُّ بعضُنَا أنَّهم الوحيدُونَ الذِينَ يُكابدُونَهَا.. وهذَا غيرُ صحيحٍ بالمرَّةِ. نحنُ جميعًا لدينَا تلكَ المُشكلاتُ بِمختلفِ أنواعِهَا ودرجاتِهَا. نحنُ وحيدُونَ حقًّا في قوقعتِنَا، ولا نعرفُ عن بعضِنَا الآخرَ شيئًا مُعتبرًا.. وهنَا تكمنُ المأساةُ.
- وفي السِّياقِ نفسِهِ، كثيرٌ من أفعالِنَا نابعةٌ من مللٍ يُحفِّزنَا لتعبئةِ فراغِ حياتِنَا الخاويةِ. لذلكَ نتوقُ للانشغالِ بالنَّاسِ، وما حولنَا من أحداثٍ في مُعظمِهَا غير مُهمَّةٍ إطلاقًا. إنَّ التقنيةَ الحديثةَ -على نفعِهَا- تُمارسُ تهديدًا خطيرًا للذَّاتِ البشريَّةِ. فنحنُ نزدادُ بُعدًا عن بعضِنَا، ناهيكَ عن مشاعرِنَا النفسيَّةِ. إذْ نبدُو أسوياءَ، لكنَّنَا مشوَّهُونَ بصورةٍ مُرعبةٍ. إنَّها لعناتُ التَّعاسةِ والوَحدةِ والقطيعةِ الفظيعةِ التي حلَّتْ على هذَا العالَمِ الحديثِ.
- نحنُ نتشاركُ أفراحًا مُبهجةً، وآلامًا مُبرحةً ومعاناةً رهيبةً.. لذلكَ، ليسَ لنَا مناصٌ من أنْ نكونَ رُحماءَ لطيفِينَ، ثمَّ نغفرُ ونُسامحُ. يقولُ الرِّوائيُّ البريطانيُّ (روالد ديل): «أعتقدُ أنَّ الُّلطفَ هِي الصفةُ الأساسيَّةُ التِي يجبُ أنْ يتمتَّعَ بهَا الإنسانُ، أنَا أضعهَا في المُقدَّمةِ، قبلَ الشَّجاعةِ أو الكرمِ، أو أيِّ شيءٍ آخرَ».