Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. عادل خميس الزهراني

لا شيء في الضوضاء.. غير وجهك يا معطاني!

A A
كانَ صباح الثلاثاءِ قاتمَ الملامحِ، بائسَ الأنسامِ.

كانَ اليومُ ثقيلَ الجسدِ.. ثقيلَ الظلِّ. قبلَ أيامٍ فقطْ، وضعتُ أعمالَ أستاذِي المعطانيِّ أمامِي في المكتبِ، لأجهِّزَ عنهَا مقالًا علميًّا مفصَّلًا.

كانَ الهدف أنْ أسعدَهُ؛ أنْ أبرَّهُ بشيءٍ ممَّا يسعدهُ، فلقدْ كانَ يحبُّ أنْ يرَى ثمرَ يديهِ إنتاجًا يقرأُهُ ويناقشُهُ معَي في اتِّصالِهِ المعهودِ، كلَّمَا نُشرَ لِي بحثٌ أو مقالٌ.

في الشَّارقةِ وقدْ كُنَّا سويًّا في مهرجانِ الشِّعرِ، كانَ حظِّي كبيرًا أنْ قضيتُ معهُ أوقاتًا رائعةً؛ كانتْ فرصةً لأشبعَ، لأروِي نَهَمِي من علمِ وحكمةِ معاليه، وأن~ أستفزَّهُ لاستخراجِ كنوزِ أسرارِهِ القديمةِ والثَّمينةِ، وكُنَّا نضحكُ.. نضحكُ كثيرًا.. اليومَ حانَ وقتُ البكاءِ.

كانَ المعطانِيُّ أبيضَ القلبِ، وكلُّكم تعرفُونَ ذلكَ. نحنُ -أبناءَه- كُنَّا نعلمُ ذلكَ، ونعلمُ صدقَ سريرتِهِ، وغيرتِهِ علينَا نحنُ الذِينَ رأى فينَا جيلَ الأملِ؛ كنتُ لا أزالُ طالبَ ماجستيرٍ، حينَ أعلنَ أمامَ جمهورِ ملتقَى النصِّ الذِي ينظِّمهُ «أدبي جدَّة»، أنَّه فخورٌ بأنْ يكونَ أستاذًا لاثنينِ من الحاضرِينَ: سهام القحطاني، وعادل خميس. شعرتُ يومهَا كمْ أنَّ أستاذِي يحبُّنِي، وأنَّني محظوظٌ.. محظوظٌ جدًّا.

كان المعطانيُّ -ولا يزال- مربيًّا حقيقيًّا، وأستاذًا أمينًا ينتمي لجيل من الأساتذة الذين تشعر بالحبور أنَّ القدر قد سمح لك أنْ تمر عليهم، وتثني الركب في مجالس علمهم. لا يجاملك المعطاني، ولا يجملك بما لا تستحق؛ حين تخطئ، أو تقصر، فاعلم أنَّك في مرمى نقده اللاذع. وقاعةُ الدَّرسِ معَ المعطانيِّ كانتْ حيويَّةً قلقةً -شأنهَا شأنُ المعرفةِ- كانتْ نظريَّاتٍ قديمةً وحديثةً، نقاشاتٍ جريئةً ومتشعِّبةً، حكاياتٍ مُفعمةً بالحكمةِ، وتحليلِ نصوصٍ.. تحليلِ نصوصٍ شعريَّةٍ، هل تفكِّرُونَ في ميميةِ الحُطيئةِ؟ لا بأسَ. كانَ يطيبُ لهذَا الشَّاعرِ التَّعيسِ أنْ يتشمَّت علينَا ونحنُ في خطِّ النَّارِ، ننعمُ بلهيبِ المعطانيِّ وسياطِ علمِهِ. كانَ المعطانيُّ من أولئكِ الذِينَ ساعدُونَا على بناءِ جسرٍ منهجيٍّ بينَ القديمِ والحديثِ، ومن يومِهَا لا أشعرُ بأيِّ تناقضٍ أو نشازٍ، وأنَا أرَى في مسيرةِ النَّقدِ الأدبيِّ امتدادًا لفكرٍ إنسانيٍّ يتعاملُ مع مادةٍ إنسانيَّةِ الجوهرِ والوظيفةِ، أعنِي الأدبَ بطبيعةِ الحالِ.

كان المعطانيُّ -ولا يزالُ- شيخاً من شيوخِي، شرفني بتوصيةٍ علميةٍ طرتُ بها إلى بريطانيا، وأتذكر رداً من أستاذٍ في جامعة بريطانية عريقة تقدمتُ للحصول على قبولِ فيها. قال الردُّ: «رأيتُ ملفكَ. وأفكرُ أن أقبلك عندي. الموضوع ليس مناسباً لي، لم يجذبنِي. جذبتنِي توصيةٌ -صادقةٌ- من زميلٍ أعرفهُ جيداً.. عبدالله المعطاني».

وأنَا أوقِّعُ كتابِي الأخير (متاهة الأزلي) فِي معرضِ جدَّة للكتابِ ٢٠٢٢، فاجأنِي أستاذِي -رغمَ كلِّ مشاغلهِ- بالحضورِ. كانتْ مشاعرِي مختلطةً، شعرتُ بامتنانٍ عظيمٍ، وشعرتُ بفخرٍ، وبالقليلِ.. القليلِ من الخوفِ، خوفِ الطالبِ الذِي يسلِّم تكليفَهُ لأستاذِهِ، يرجُو رضاهُ، ويخشاهُ..!!

كُتبُ أستاذِي المعطانِي أمامِي على المكتبِ الآنَ؛ قبلَ يومَينِ قرَّرتُ أنْ أكتبَ دراسةً عن (وجوهٍ في الضوضاءِ)، العنوانُ عجيبٌ، ومحتوَى الديوانِ ملهمٌ. قلتُ سأختارُ قصيدةً، وأحلِّلهَا، ولنْ تخلوَ الدراسةُ من مشاغباتٍ ومشاكساتٍ؛ لكَي يكونَ اتصالهُ بِي هذهِ المرَّة طويلًا، ويكونُ الحديثُ ملحميًّا.. سأكتبُ الدِّراسةَ، أعلمُ ذلكَ، لكنْ أعلمُ أيضًا أنَّه لنْ يتَّصلَ. ويحَ الأيام!

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store