جيلنَا في المدينةِ المنوَّرة من جيلِ أميرِهَا الأمير عبدالمحسن بن عبدالعزيز -رحمهُ اللهُ- ولَا زالَ في ذاكرتِي نشيدنَا في تلكَ الأيَّامِ من أناشيد أطفالِ المدينةِ، الذِي مطلعهُ «أميركُم مين.. عبدالمحسن»، وتنطوِي الأيَّامُ، ونسمعُ بابنِ لأميرِنَا عبدالمحسن، بزغَ نجمهُ من خلالِ قصائدَ شعرِهِ وعطائِهِ المتميِّزِ، أبرزهُ شعرًا وطنيًّا بحجمِ الوطنِ، وكنتُ بعدَهَا كلَّمَا أسمعُ أغنيةً وطنيَّةً أقولُ خلفهَا بدر بن عبدالمحسن، خاصَّةً تلكَ القصيدةَ الغنائيَّةَ الوطنيَّةَ التِي جاءتْ في وقتِهَا قبلَ خمسِينَ عامًا تقريبًا، وكانَ عمرُهُ عندَ تأليفِهَا عشرِينَ عامًا، بينمَا كنتُ يومَهَا في الصفِّ الثَّالثِ الثَّانويِّ، وكانتْ مناسبتهَا وفاةُ الملكِ فيصل الذِي كانَ فَقْدُه صعبًا في تلكَ الأيَّامِ، وأذكرُ يومَهَا أنَّنَا أصبحنَا في ثانويَّةِ أُحد على قصيدةٍ من تأليفِ أحدِ الأساتذةِ مكتوبةً على السبورةِ، لازلتُ أتذكَّرُ مطلعهَا:
«مَا مَاتَ بلْ حيٌّ لدَى الرَّحمنِ..
هذَا شهيدُ الحقِّ والإيمانِ..
يَا فيصلَ التاريخِ يا نبضاتهُ..
نَمْ فِي حِمَى الرّحمنِ نومةَ هانٍ»
وبعدهَا بفترةٍ قصيرةٍ أنشدَ الوطنُ كلُّه قصيدةَ بدر بن عبدالمحسن عن الملكِ فيصل، والملك خالد؛ ممَّا يدلُّ على موهبتِهِ الشعريَّةِ المبكِّرة، بل إنَّه مدرسةٌ في الشعرِ الغنائيِّ الوطنيِّ، والذي أعتقدُ أنَّه لمْ يجارِهِ في هذَا العمقِ أحدٌ، وكانتْ قصيدتهُ الغنائيَّةُ من ألحانِ وأداءِ فنانِ العربِ محمد عبده، حيثُ تقولُ:
رَبُّنَا واحد.. دَربُنَا واحد
كلُّنَا فيصل.. كلُّنَا خالد
كلُّنَا فيصل يا سيوفَ العزِّ والمجدِ التَّليدِ
وكلُّنَا خالد بالعملِ والجدِّ والرَّأيِ السَّديدِ
إحنَا إذَا ماتَ البطل فينَا شهيد
أحفاد ابوبكر وعمر وابن الوليد
وحيثُ إنَّه حسٌّ وطنيٌّ بتميُّز تتجدَّد قصيدتهُ في وقتنَا الحالِي لتؤدِّي نفسَ المعنَى في إنشادِهَا غنائيًّا اليومَ بمطلعِ:
دربُنَا وَاحِد.. وربُّنَا وَاحِد
كلُّنَا سلمَان.. كلُّنَا محمَّد
ولست هنا في مقام سرد سيرة هذا الرجل الوطني، الذي تفوح سيرته بقصائد غنائية ذات دلالات وطنية، لكنني أود أنْ ألفت النظر إلى أنَّ المواطنة وحب الوطن يمكن أنْ تعمقه القصيدة والأغنية، وعلى الرغم من أنَّ هناك جهداً لتدريس وتعميق مفهوم الوطنية، إلا أنَّ المواطنة تختلف؛ لأنها تنبعث من الأعماق عندما تكون متجذرة، وقدْ عبَّرَ عن ذلكَ رسولُ اللهِ -صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم- أيَّمَا تعبير، عندمَا خاطبَ مكَّة قائلًا: «واللهِ لولَا أنَّ قومَكِ أخرَجُونِي مَا خَرجتُ منكِ»، وعندمَا استقرَّ في المدينةِ المنوَّرة كوطنٍ لهُ -عليه الصَّلاةُ السَّلامُ- مدحَهَا وتعمَّقَ حبُّهُ لهَا ولأهلِهَا من الأنصارِ، ووصفَ أجزاءً منهَا بأنَّها من الجنَّةِ، فالرَّوضةُ مِنَ الجَنَّةِ، وأُحدُ مِنَ الجَنَّةِ، وربَّى صحابتَهُ -عليه الصَّلاةُ السَّلامُ- على حبِّ مكَّة المكرَّمة، والمدينة المنوَّرة، فالمواطَنةُ من الفطرةِ، وممَّا جُبلتْ عليهِ القلوبُ، فإذَا كانَ المثلُ الإنجليزيُّ يقولُ: «بيتُ الإنسانِ قلعتُهُ»، فإنَّ المثلَ الوطنيَّ يقولُ: «بيتُ الإنسانِ وطنُهُ»، ففيهِ راحتُهُ وحياتُهُ.
ومن هنَا يصحُّ أنَّ القولَ المناوئَ للموَاطَنةِ هُو الغربةُ والبُعدُ عن الوطنِ، وكمْ من الذِينَ نأُوا عن أوطانِهِم خسِرُوا أنفسَهُم وأهليهُم خاصَّةً موطنًا كالسعوديَّةِ وطنَ العزِّ والكرامةِ والأراضِي المقدَّسةِ ذي الأبعادِ الحدوديَّةِ المترابطةِ التِي قامتْ علَى الكتابِ والسُّنَّةِ، إنَّ وطننَا كبيرٌ بدينِهِ، وولاةِ أمرِهِ، وحنكةِ قيادتِهِ، وكبيرٌ بأهلِهِ وشعبِهِ. فحفظَ علينَا ديننَا ووطننَا وولاةَ أمرنَا، وحُقَّ لمثلِ البدرِ وأصحابِ المواطَنةِ الحقَّةِ والشَّعبِ السعوديِّ أنْ يتغنُّوا بقصائدِ الوطنِ مثل «هام السُّحب» و»كلُّنَا واحد وربُّنا واحد» وغيرها ممَّا حوتهُ دواوينُ البدرِ -رحمَهُ اللهُ رحمةً واسعةً، وجعلَهُ في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدرٍ- والعزاءُ لأهلهِ وذويهِ، والأسرةِ المالكةِ، والشَّعبِ السعوديِّ. «إِنَّا لِلهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ».