من الواضحِ أنَّ إسرائيلَ تعيشُ في ظلِّ النُّخبةِ اليمينيَّةِ المتطرِّفةِ الحاليَّةِ أسوأَ أيَّامَهَا.. فهناكَ حَوالَى ثلاثِينَ ألفِ لاجئٍ إسرائيليٍّ تمَّ تهجيرُهُم من الشمالِ، حيثُ لا تستطيعُ حكومتهُم توفيرَ الأمنِ هناكَ، إلى مناطقَ أُخْرَى في إسرائيلَ تعتقدُ حكومةُ نتنياهو أنَّها آمنةٌ. وتُعانِي إسرائيلُ من خسائرَ بشريَّةٍ لمْ تكنْ تعتقدُ أنَّهُ سيأتِي يومٌ تُعانِي فيهِ فقدانَ هذَا العددِ من جنودِهَا في معاركَ تدورُ علَى أرضٍ كانتْ تعتقدُ أنَّهَا مهيمنةٌ عليهَا، وتتواصلُ هذهِ الخسائرُ بشكلٍ يكادُ يكونُ يوميًّا. وهناكَ خسائرُ ماليَّةٌ، واقتصادٌ ينكمشُ، بينمَا تواصلُ الحربَ، التِي تقودُهَا الحكومةُ الإسرائيليَّةُ، إلى المزيدِ من الخسائرِ الاقتصاديَّةِ وفقدانِ الأمنِ.
كلُّ هذَا وغيرُهُ في وقتٍ ترفضُ فيهِ الزُّمرةُ الحاكمةُ القبولَ بالحلولِ المعروضةِ عليهَا بقيامِ دولةٍ للفلسطينيِّ؛ الذِي يُسبِّبُ كلَّ هذهِ الآلام والخسائر، وانعدامَ الأمنِ للإسرائيليِّينَ.
مشكلةُ اليمينِ الحاكمِ -الآنَ- كمَا هِي معضلةُ كلِّ النُّخبِ الإسرائيليَّةِ التِي تولَّت السُّلطةَ فِي إسرائيلَ، أنَّهَا لَا تواجهُ الحقائقَ أمامَهَا، وتُعطِي النَّاخبِينَ وَهْمَ أنَّ إسرائيلَ قادرةٌ علَى البقاءِ بدونِ أيِّ دعمٍ خارجيٍّ، معَ مواصلةِ تجاهلِ الفلسطينيِّ وإنكارِ وجودِهِ. وسعتْ هذهِ النُّخبُ إلى الادِّعاءِ بأنَّ التطبيعَ معَ العرب -وخاصَّةً المجاورِينَ لهَا- سيُنهِي المشاعرَ العربيَّةَ المعاديةَ للكيانِ الإسرائيليِّ. معَ أنَّ التَّطبيعَ معَ مصرَ، والأردنِ، لمْ يؤدِّ خلالَ الفترةِ الطويلةِ -التَّطبيع معَ مصرَ تمَّ بعدَ حربِ أكتوبر 1973- إلى تطبيعٍ حقيقيٍّ معَ هاتَينِ الدولتَينِ؛ لأنَّ العنصرَ الرئيسَ لمْ يتمْ، وهُو إقامةُ الدَّولةِ الفلسطينيَّةِ.
إسرائيلُ بحاجةٍ إلى دعمٍ عسكريٍّ مِن قُوَى أكبرِ منهَا؛ لمواجهةِ كلِّ أزمةٍ واجهتهَا (أوْ ستُواجههَا).. وعندمَا تهاوتْ أجهزةُ الأمنِ الإسرائيليَّةِ أمامَ قيامِ فصيلٍ فلسطينيٍّ (حماس) بتحطيمِ وتخطِّي الحواجزِ الأمنيَّةِ المحيطةِ بقطاعِ غزَّة، وسادَ الذُّعرُ والشُّعورُ بعدمِ الأمانِ في إسرائيلَ كلِّهَا، سارعتِ الجيوشُ والأساطيلُ الأمريكيَّةُ والبريطانيَّةُ والفرنسيَّةُ إلى داخلِ إسرائيلَ وحوالَيهَا؛ لبثِّ روحِ الطمأنينةِ، والسَّعي لحمايةِ إسرائيلَ. بلْ وسارعَ الرؤساءُ السياسيُّونَ والقادةُ العسكريُّونَ مِن الدولِ الغربيَّةِ إلى إسرائيلَ؛ لتأكيدِ وقوفِهِم إلى جانبِهَا ضدَّ فصيلٍ فلسطينيٍّ أكَّدَ للإسرائيليِّينَ أنَّهُ لَا أمانَ لهُم بدونِ القبولِ بحقِّ الفلسطينيِّ في دولةٍ فلسطينيَّةٍ.
في حربِ أكتوبر 1973، أقامَ الأمريكيُّونَ ودولٌ غربيَّةٌ أُخْرَى جسرًا جويًّا إلى العريشِ المصريَّةِ في سيناءَ، لإنزالِ القواتِ والمعدَّاتِ العسكريَّةِ التِي ساهمتْ في وقفِ الزَّحفِ المصريِّ داخلَ سيناءَ.
إذا كان البعض يدعي أنَّ (قوة الردع) الإسرائيلية، بما فيها قنبلتها النووية، تؤدي إلى حماية إسرائيل، فإنَّ ذلك الادعاء تحطم، ليس بإعلان الحماية العلنية لأمريكا وحلفائها فحسب، بل بالاجتياح الذي حققه الفصيل الفلسطيني لحواجز تباهى الإسرائيليون بأنها أقوى ما تم إنشاؤه بأحدث تكنولوجيا إسرائيلية، واستمرار الحرب ضد الفلسطيني داخل غزة والضفة الغربية لحوالى سبعة شهور بدون تحقيق أي نهاية لها.
النُّخبُ الإسرائيليَّةُ أمامَ تحدٍّ يتطلَّبُ منهَا تثقيفَ ناسِهَا بأنَّ للفلسطينيَّ حقًّا فيمَا يُطالبُ بهِ مِن قيامِ دولةٍ فلسطينيَّةٍ، وإنَّ إسرائيلَ (العُظمَى) كانتْ وَهَمًا تحطَّمَ، وعليهِم التَّعاملُ معَ الواقعِ الحقيقيِّ لهُم. ومتَى تفعَّلتْ برامجُ الاعترافِ بذلكَ، فإنَّ المنطقةَ بحاجةٍ إلى الاستقرارِ لتنمِّي قدراتِهَا وتتوسَّعُ في مشروعاتِ بناءِ الشَّرقِ الأوسطِ الجديدِ. وحينهَا، أي معَ الإعدادِ لقيامِ الدَّولةِ الفلسطينيَّةِ، قدْ تُحقِّقُ سياساتُ التَّطبيعِ التِي يتغنَّى بهَا الإسرائيليُّونَ وحلفاؤهُم القبولَ الشعبيَّ، الذِي سيزدادُ كلَّمَا ارتفعتْ نسبةُ الاستقرارِ في المنطقةِ، وتحققَ للفلسطينيِّ دولتهُ.
المقولةُ التِي تُنقلُ عن الجنرالِ الإسرائيليِّ الرَّاحلِ موسى ديان: (علَى الآخرِينَ أنْ يرُوا إسرائيلَ ككلبٍ مجنونٍ، من الخطرِ إزعاجهُ) ليستْ دقيقةً، فالكلبُ المجنونُ يبدُو أنَّهُ بدونِ أسنانٍ، ومِن الضروريِّ أنْ يتمَّ تبديلُ الكلبِ بالاعترافِ بالواقعِ.