يُقالُ إنَّ عبارةَ: «العقلُ السَّليمُ في الجسمِ السَّليمِ»، هِي للشَّاعر الرومانيِّ «جوفينال»، ولكنْ بالنَّظرِ للكثيرِ من العلماءِ الذِينَ أثرُوا البشريَّةَ بعلمِهم وإبداعِهم، كانُوا من أكثرِ النَّاسِ تألمًا جسميًّا ونفسيًّا، ولم يكنْ المرضُ حائلًا دونَ تميُّزهِم وتحقيقِ ذاتِهم، فهناكَ الكثيرُ ممَّن أُصيبُوا بأنواعٍ مختلفةٍ من الأمراضِ، ولكنَّهم وضعُوا بصمتَهُم في مسيرةِ الفكرِ والحضارةِ الإنسانيَّةِ.
فقدْ كانَ خطيبُ اليونانِ البليغُ «ديمو ستنيس» ألثغَ، والإنجليزيُّ «ألكسندر بوب» مترجمَ «إلياذة»، وثالثُ كاتبٍ يتمُّ الاستشهادُ منهُ في قاموسِ أكسفورد للاقتباساتِ بعدَ «شكسبير» و»الفريد تنيسون» كانَ أحدبَ، و»شينتمس» الفيلسوفُ الألمانيُّ كانَ قزمًا مشوَّهًا، وصاحبُ مذهبِ النشوءِ والانتخابِ الطبيعيِّ «تشارلس داروين» كانَ مصابًا بمرضِ الأعصابِ.
وهذَا الشَّاعرُ أبو العلاء المعرِّي، حكيمُ المعرَّةِ، أبرزُ الفلاسفةِ والشعراءِ العربِ، والذِي أثرَى كتبَ الأدبِ بقصائدهِ الجميلةِ، فَقَدَ بصرَهُ وهُو مازالَ في الرابعةِ من عمرِهِ.
ومن سُخريةِ القدرِ أنْ يُنكبَ «بيتهوفن» الموسيقارُ بالصَّممِ وفي صممِهِ ألفُ أسمَى قطعِه الموسيقيَّةِ، ويُولد «مايكل أنجلوا» وهُو أعسرُ، واكتشفَ «باستير» اكتشافَهُ العلميَّ العظيمَ المتعلِّقَ بالجدريِّ ولقاحِهِ، بعدَ إصابتِهِ بسكتةٍ قلبيَّةٍ.
وكذلكَ ليسَ يخلُو من المهانةِ «مرأَي كام وينز» شاعرِ الإسبانِ الشهيرِ الذِي كانَ أعورَ العينِ، والكاتبِ الإغريقيِّ الأشهرِ «إيسوب» صاحب الأساطيرِ والعبرِ كانَ أحدبَ، وعزيز أنْ نتصوَّر الأديبَ الفرنسيَّ الشهيرَ «فرانسوا فولتير» يقاتلَ الخرافةَ الدينيَّةَ كالتِّنِين الهائلِ وهُو الأعجفُ البيِّنُ -العجفِ معَ طولِ القامةِ وتقوسهَا-، وأنْ نتمثَّلَ اللوردَ الإنجليزيَّ «جورج بريون»، سليلَ العليةِ الرائع الطلعةِ، يحلِّقُ بخيالهِ الجامحِ إلى السماءِ، ويمشِي على الأرضِ بقدمهِ العرجاءِ.!!
واستطاع الرئيس الأمريكي «روزفلت»، أنْ يقود أمريكا خلال الحرب العالمية الثانية، وهو على كرسيٍّ متحرِّك، ويُعدُّ أحد أعظم ثلاثة رؤساء أمريكيين إلى جانب «جورج واشنطن»، ومحرِّر العبيد الرئيس «إبراهام لينكون».
وبلغَ نوابغُ «السلِّ» في العددِ مَا لم يبلغهُ نوابغُ أيِّ مرضٍ آخرَ. فقدْ كانَ الشَّاعرُ والكاتبُ البريطانيُّ «فرنسيس طومسون»، أسيرَ هذَا الدَّاءِ، وظهرتْ عبقريَّةُ الأديبةِ الإنجليزيَّةِ «ماري شلي» والدَّاء يبرحُ بهَا أعظمَ تبريحٍ، ومن فرائسهِ أيضًا نوابغُ مثل: الروائيَّةُ البريطانيَّةُ «جين أوستن»، والفيلسوفُ والمفكرُ البريطانيُّ «جون لوك»، وأبرزُ كتَّابِ القصَّةِ القصيرةِ الكاتبةُ الإنجليزيَّةُ «كاترين منس فيلد».
أمَّا مرضُ الجنونِ فكانَ من نصيبِ أعظمِ النوابغِ في طليعتِهم مكتشفُ الجاذبيَّةِ الأرضيَّةِ عالمُ القرنِ «إسحاق نيوتن»، والشَّاعرُ الإيطاليُّ الشهيرُ الذِي يُطلقُ عليهِ أبو اللُّغةِ الإيطاليَّةِ «دانتي» صاحب الكوميديَا الإلهيَّةِ، والكاتبُ والناقدُ الإنجليزيُّ «تشارلز لام»، الذِي عاشَ منغَّصًا ممَّا عسى أنْ يجيئه الغد بهِ غيرَ عارفٍ متَى يفقدُ عقلَهُ تمامًا، ورغمَ ذلكَ خرجتْ مقالاتُهُ التِي لا مثيلَ لهَا، والتِي قصَّ فيهَا رواياتِ الشَّاعرِ الإنجليزيِّ الشهيرِ «شكسبير»، والتِي أصبحتْ تُعلَّم في المدارسِ.
كلُّ هؤلاءِ العظماءِ لمْ يكونُوا بأجسادٍ معافاةٍ تمامًا، وهذَا دليلٌ علَى أنَّ التميُّزَ والإبداعَ في متناولِ الجميعِ، ما عدَا أولئكَ الذِينَ يسيرُونَ في ركابِ الكسَالَى والخاملِينَ.