* النرجسيَّةُ مِن أرذلِ الصِّفاتِ البشريَّةِ وأصعبِهَا قبولًا عندَ المجتمعاتِ، فالمصابُ بهذَا الدَّاءِ شخصٌ غيرُ محبوبٍ حتَّى علَى المستوَى الأُسريِّ الضَّيقِ، ومِن الصَّعبِ والنَّادرِ التَّعاطفُ معهُ، وكثيرٌ منَّا يتجنَّبُ التَّعاملَ معَ هذهِ الشَّخصيَّاتِ، ويتمنَّى ألَّا يكون أبناؤهُ منهُم، فهلْ النَّرجسيُّونَ يُولدُونَ، أمْ أنَّهُم يُصنَعُونَ؟.
* مِن المؤسفِ القولُ إنَّ الآباءَ والأُمَّهاتِ لهُم اليدُ الطُولَى فِي صناعةِ هذَا الاضطرابِ عندَ الأبناءِ، حيثُ تُظهِرُ أبحاثٌ كثيرةٌ أنَّ معظمَ النَّرجسيِّينَ لمْ يختَارُوا أنْ يكونُوا علَى هذَا النَّحوِ؛ لكنَّهُم -فِي الغالبِ- يحملُونَ ندوبًا نفسيَّةً منذُ الطفولةِ؛ كانَ للآباءِ دورٌ كبيرٌ فيهَا، بالإضافةِ إلى البيئةِ بالطَّبعِ.. فعندَمَا ينشأُ الطفلُ معَ أُمٍّ أوْ أبٍ نرجسيٍّ، فكأنَّهُ يكتسبُ هنَا جرعتَينِ مزدوجتَينِ من العواملِ الوراثيَّةِ والسلوكيَّةِ معًا!.
* يشيرُ أحدُ علماءِ النَّفسِ (أوتو كيرنبرغ) إلى خطورةِ مَا سمَّاهُ (العدوانَ الأبويَّ النرجسيَّ) من أحدِ الأبوَينِ تجاهَ الأبناءِ، واصفًا الآباءَ مِن هذَا النَّوعِ بالمدمِّرِينَ، إذْ إنَّهُم عادةً مَا يكونُونَ قريبِينَ جدًّا من أطفالِهم علَى نحوٍ مَرَضِيٍّ وتملُّكيٍّ، وقد تنتابُهُم مشاعرُ حسدٍ وغيرةٍ وقلقٍ من فكرةِ استقلالِ أطفالِهِم، وأمامَ هذَا الشعورِ غيرِ السَّويِّ، قدْ ينتابُ الوالدَ النرجسيَّ إحساسٌ بإمكانيَّةِ فَقْدِ الطِّفلِ؛ الذِي يُمثِّلُ مصدرًا مهمًّا لإكسابهِ شعورًا بالتَّقديرِ الذَّاتيِّ، وقدْ يؤدِّي ذلكَ إلى مَا يُطلقُ عليهِ (التعلُّقُ النرجسيُّ)، وهِي فكرةٌ مستبِّدةٌ واستغلاليَّةٌ تنظرُ للأطفالِ كأملاكٍ خاصَّةٍ لوالدِيهِم، وأنَّهُم موجودُونَ في الحياةِ لمصلحةِ الوالدَينِ ومنفعتِهِم لا غير؛ ممَّا يتسبَّبُ في «تلوُّثٍ نرجسيٍّ» مهينٍ لمشاعرِ الأطفالِ؛ واحتياجاتِهِم الأوَّليَّةِ مِن الأمنِ النَّفسيَّ واستقلالِ الشخصيَّةِ، ويُشعرهُم بالدونيَّةِ والتَّبعيَّةِ والعجزِ، فيُحاولُونَ مِن جهتِهِم ممارسةَ الدورِ نفسِهِ مِن خلالِ خلقِ تفوُّقٍ وهميٍّ؛ ومثاليَّةٍ غيرِ واقعيَّةٍ علَى أقرانِهِم وكلِّ مَن حولَهم؛ لحمايةِ صورتِهِم الذَّاتيَّةِ، التِي هزَّهَا آباؤهُم.
* ولأنَّ الأب النرجسيَّ شخص يمتلك شعورًا منخفضًا للغاية من تقدير الذَّات، فإنَّه -وخوفًا من أنْ يفكِّر به الآخرون بشكل سيئ، ولحماية شعوره المهزوز بنفسه- فإنَّ هاجسه الأكبر يكون مراقبة ما يفكِّر فيه الآخرون، والطريقة التي يتصرَّفون بها معه، والأدهى أنَّه يطلب من أبنائه سلوكًا مماثلًا؛ لأنَّه يراهم امتدادًا لشخصيَّته المهزوزة، وقدْ يصلُ بهِ الأمرُ حدَّ لومِهِم علَى التبسُّطِ معَ الآخرِينَ، الذِي يراهُ ضعفًا لَا يليقُ بشخصيِّتهِ العظيمةِ؛ لذلكَ مِن الطبيعيِّ ألَّا يمتلكَ الأطفالُ المدفوعُونَ نحوَ النرجسيَّةِ الكثيرَ من الصَّداقاتِ، بلْ يربطُونَ حظَّهُم من العلاقاتِ الجيِّدةِ والتقديرِ بطاعتِهِم لآبائِهِم النَّرجسيِّينَ!.
* بالطبعِ ليسَ كلُّ أبناءِ النَّرجسيِّينَ يصبحُونَ مثلَهُم، كمَا أنَّ العكسَ ليسَ صحيحًا بالضرورةِ.. لكنْ قبلَ أنْ توجِّهَ اللَّومَ لابنِكَ -أو ابنتِكَ- الذِي تبدُو عليهِ بعضُ علاماتِ النَّرجسيَّةِ، عليكَ أنْ تراجعَ طريقتَكَ في تربيةِ أبنائِكَ، والتعاملَ معهُم، فِفِي كثيرٍ من الأحيانِ تكونُ بعضُ سلوكياتِنَا وأساليبِنَا التربويَّة غير الصحيحةِ هِي مَا يدفعهُم نحوَ هذهِ الصفةِ الكريهةِ، وهِي مَن تجرُّهم جرًّا نحوَ هذَا الاضطرابِ النَّفسيِّ المُشينِ.