منذ فترة والتربويون والمهتمون بأمر التعليم مهتمُّون بإحلال القطيعة بين مهارتَي (الحفظ والاستظهار) (والتفكير وطرح السؤال)؛ إذ يرون أنه لا يُستساغ الجمع بين المهارتَين، وكأنهما مهارتان متضادتان أو كأنهما تقفان على طرفَي نقيض، أو كأن الأولى لا يمكن أن يكون لها حضورها في حضرة الأخرى. والحق أن مهارة الحفظ والاستظهار تُعد ميزة؛ فهي ذات جدوى وقد كان لها حضورها الفاعل في فترة ماضية؛ حينما كانت الوسائل المادية لحفظ المعلومات نادرة، فكان الحفظ والاستظهار (الذاكرة) هما الوسيلة المُثلى للحفاظ على المعلومات واسترجاعها حال الرغبة فيها.
الذي حصل هو أن النداءات تعالت مطالبة بتنحية مهارة الحفظ والاستظهار أو جعلها في أدنى مستوياتها، وإحلال مهارة التفكير وطرح السؤال مكانها؛ بوصفها مهارة لا تركن للحفظ الآلي الذي يرونه لا يُكسب المتعلم المهارات المرغوبة، خلاف مهارة التفكير وطرح السؤال التي تُخرج الطالب من شِباك الحفظ المقولب والترديد غير الواعي إلى فضاء التفكير الناقد وطرح السؤال الإشكالي وتعزيز مهارة الحوار، وغير ذلك من الكرامات التي يرونها تتحقق عن طريق مهارة التفكير وطرح السؤال.
في الواقع أن كلا المهارتين (الحفظ والاستظهار من جهة والتفكير وطرح السؤال من جهة أخرى) في غاية الأهمية للمتعلم، ولا يصح الفصل بينهما أو تفضيل إحداهما على الأخرى؛ فبالحفظ تتوسع الذاكرة ويحوز المعلم على كمٍّ وافر من العلوم والمعارف والمعلومات التي لا غنى له عنها وعن استرجاعها في مواقف تعليمية وتربوية، أو حتى في مواقف الحياة العامة، ولا يمكن أن يكتسبها إلا بهذه الصفة، ولو أنا أهملنا مهارة الحفظ والاستظهار، فكيف نقيم الصلوات دون استظهار بعض السور والآيات؟ وكيف نُنمي -على سبيل المثال- المهارات اللغوية والذائقة بل وموهبة الشعر دون حفظ الكم الوافر من عيون الشعر العربي؟ بل إن مهارة الحفظ والاستظهار لا يُستغنى عنها حتى في المواد العلمية والطبيعية كحفظ القوانين وأسماء المركبات وأسماء مكونات البيئة الطبيعية.
الأمر الذي لم أستوعبه هو حين يأتي (تربوي أو مثقف) فيقلل من أهمية مهارة الحفظ والاستظهار ويُشيد بمهارة التفكير وطرح السؤال، ويرى أن الطالب بهكذا توجه سيحظى بتعليم فاعل وهو ما يجعل منه -حسب رأيه- طالبًا منتجًا مستوعبًا لعلوم العصر ومعارفه ومستجداته، لكنَّ صاحبنا (التربوي أو المثقف) ينسى في غمرة اندفاعه ما أشاد به في مبتدأ حديثه؛ فتراه يشتكي من الضعف (الحاصل والظاهر) في مهارات الطلاب اليوم وقدراتهم واستيعابهم وضعف رصيدهم المعرفي، ويعجب من وصولهم لمراحل تعليمية متقدمة وهم بهذه الحال من الضعف، وينسى أنهم نتاج أصيل لعملية تنحية مهارة الحفظ والاستظهار والتشديد على مهارة التفكير وطرح السؤال (وحدها).
والخلاصة: أرى أن من الخير والصدق مع الطالب أن يكون تعليمه وفق المهارتَين السابقتَين؛ بحيث لا تُصادر إحداهما الأخرى؛ فلكل مهارة أهميتها ومرحلتها وجدواها؛ إذ لا تَعارض بينهما، فهما كجناحَي طائر لا يُغني أحدهما عن الآخر.