* من المؤسف أن يكون لدينا وعلى امتداد المشهد الثقافي العربي؛ فهمٌ منقوص ومضحك لكثيرٍ من القيم الإنسانية التي نفهمها بشكلٍ مُشوّه، ويتم التعامل معها بمعاييرنا الخاصة التي تختلف عن كل معايير أهل الأرض، حتى وإن تشابهت المصطلحات، ولعل (حرية الرأي) هي أهم هذه القيم وأخطرها.
* ليس غريباً أن يمارس المتشدد (أيّاً كان نوع تشدده - ديني - طائفي... إلخ) الإقصاء والدكتاتورية، وصولاً للإرهاب والقتل في سبيل الانتصار لرأيه، فهو يؤمن بالقوة كسبيل وحيد لفرض رأيه والانتصار له.. لكن العجيب فعلاً هو أن يمارس بعض المحسوبين على الثقافة أشد درجات (الإقصاء) الفكري، تحت دعاوي التنوير وحرية الرأي!!، فيُسلّطون سيوف البذاءة والسخرية والتهكّم لإرهاب مخالفيهم والتشهير بهم، ويُطلقون الشائعات والأكاذيب لفرض رأيهم؛ دون أدنى اعتبار لقيمة (الحرية) التي يتشدّقون بها، وهذا تناقض يُمثِّل أشد وجوه التطرف والدكتاتورية، ولا يختلف كثيراً عن التطرف الديني، حتى وإن جاء بلباس مدني أنيق، فأولئك يقتلون خصومهم بالسلاح، وهؤلاء يقتلونهم بالأقلام وشحذ الشائعات والأكاذيب والتشهير.
* الدكتاتورية الفكرية، وتدبيج قصائد الشتائم والردح، ووصم المخالفين بـ (الظلاميين) المعادين للتنوير، يُذكِّرني بما حدث في الخمسينيات والستينيات الميلادية؛ عندما انتشر الفكر الماركسي الشيوعي في المنطقة العربية، وأخذت بعض الإذاعات العربية تُرسل اتهامات التخوين صباح مساء، مطلقين على كل من يخالفهم لقب (رجعي) (متخلف)، بينما استأثروا لأنفسهم بمسمى (التقدميون).. ولا أظنني في حاجة لأشرح لك إلى أي حال بائس انتهى (تقدميو) الأمس، وإلى أي درجة بلغ ازدهار وتقدم الدول والشعوب التي كانوا يرجمونها بالتخلف والرجعية!.
* ما يحدث اليوم في بعض المنصات التي تتشكل و(تتكوّن) على فضاءات الإنترنت من أطروحات مستفزة لعقائد المجتمع، وتهكمات وتشكيك في الثوابت الدينية للأمة؛ وطعن في بعض الشخصيات والقدوات التاريخية، هو أمرٌ لا يمت للنقد ولا للبحث العلمي، ولا حتى للفكر الحر بأي صلة، خصوصاً وهو لا يتّبع أي منهج نقدي علمي، إضافة إلى أنه يأتي من أناس لا علاقة لهم لا بالمناهج البحثية ولا بالمواضيع التي يتم طرحها، بل هي مجرد هرطقات حاقدة؛ هدفها التشويش والتشكيك وإثارة البلبلة، وإرهاب كل مَن يعلن التوافق مع تلك الثوابت، والمصيبة أن كل هذا يتم تحت مسمى التنوير والعصرنة والتجديد!.
* حرية الرأي قيمة عليا كلنا نبحث عنها.. لكنها تستخدم في واقعنا العربي بأساليب نفعية قمعية، فيستخدمها البعض حين يريد تمرير رغباته وأهوائه الخاصة، ثم ما يلبث أن ينقلب عليها مستخدماً أبشع درجات القمع الفكري لفرض رأيه متنكراً للقيمة التي أوصلت صوته، ومتجاهلاً أن الاختلاف سنة من سنن الخلق، وأن الحكمة ليست في موافقة الآخرين في كل آرائهم، بل في قبولنا لوجودهم، واحترامنا الكامل لأشخاصهم؛ مهما كانت درجة الاختلاف في الرأي.
* لست ضد النقد والمراجعة، ولا أدعو لغلق أي مركز بحثي أو مؤسسة جادة طالما كانت متخصصة وملتزمة بالمنهج العلمي وآداب الحوار.. لكنني بالتأكيد ضد مؤسسات (السوالف) والثرثرة المستفزة من كل من هب ودب، وضد الدكتاتورية الأفعوانية ناعمة الملمس وشديدة السّمية، وضد التطرف بكافة أشكاله وألوانه.