إن الحديث عن الحِوار، وأهميته، والتعريف بآدابه، وعرض الكثير من الأمثلة الشرعية، والتاريخية له يجب أن لا يتوقَّف، بل يجب أن يتصدَّر قائمة همومنا الثقافية؛ حتى يصبح واجباً إلزامياً على كافة المؤسسات الإعلامية، والتعليمية، والمحاضن التربوية المختلفة.. وكم أتمنى أن يجيء اليوم الذي تَشْرَعُ فيه المدارس الابتدائية قبل الجامعات بتدريس مقرر أو منهج؛ يُعنى بتدريس الصغار قبل الكبار مفهوم أدب الحِوار، ومفهوم أدب الخلاف.
أن من أهم الدلالات المُوحِية بمعنى الحِوار في النص القرآني، بطريقة مؤسسية، والدالة على الاختلاف الموجب لذلك الحِوار؛ كآلية لإدارة التنوع، هي قول الله تعالى: [وَمِنْ آَيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِلْعَالِمِين] (الروم :22).
فإذا كان رب العالمين قد أمضى سنّته في خلقه بهذا التباين في الألسنة، والألوان، والعقول، والمعارف، فما بال البَشَر يُصرّون على تغيير أو تجاهل هذه الحقيقة الكونية من خلال إقصاء بعضهم البعض بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة؟ وبنبذ بعضهم البعض، لأسبابٍ دينية، أو اجتماعية، أو سياسية؛ حتى أصبح شعور الكراهية هو الشعور "الأكثر ممارسة والأعلى مشاهدة"، وحتى أضحت الفُرْقَة بين أبناء المسلمين هي العلامة البارزة في الكثير من علاقاتهم الدينية والدنيوية.
والحقيقة التي لا تخفى على أي مراقب أو متأمل لواقع الأمة الإسلامية، الذي يسرّ الأعَدَاء ويُحزِن الأصدقاء! يجد أن أعظم المصائب والنَكَبَات التي مُنيت بها الأمة بعد العصر الراشدي؛ كانت شرارتها الأولى الخلافات الفكرية، والانقسامات المذهبية والطائفية التي كانت -ولازالت- ثغرة ينفذ منها أعداء الإسلام لتحقيق أهدافهم الشيطانية ومؤامرتهم الخبيثة.
تلك الخلافات التي أعملت في المسلمين ما لم تستطع جيوش الاحتلال عبر تاريخها الاستعماري كله تحقيقه، ولعل ما يحدث في بعض الساحات العربية والإسلامية خير شاهد، وخير دليل.
هذا التشرذم الديني، والسياسي، والاجتماعي الذي تعيشه الأمّة يقف وراءه مجموعة من العوامل والأسباب، لعل من أبرزها "غياب ثقافة الحِوار" إذ أنه في ظل التُحَزِّب المُتَشَنِّجُ، والمذهبية المنغلقة، والتَعصَّب الأعمى تنتشر "ثقافة الكراهية" وفي المقابل، في مُناخ التعددية الفكرية والثقافية، والتسامح يشيع مفهوم الحِوار، وبالتالي تزدهر ثقافته، والتي تقودنا بالضرورة إلى مجتمع متآلِف ومتسامح.
ولو قلَّبنا بعض صفحات تاريخنا المُشرِق، وعملنا مقارنة بينها، وبين بما يجري اليوم في واقعنا، سيتضح لنا الفرق جلياً؛ بين ما أنتجته ثقافة الحِوار في ذلك الزمان، وما أنتجته ثقافة الكراهية هذه الأيام! حيث يصف لنا ذلك غازي القصيبي قائلاً: "في بغداد القديمة كان أبو العتاهية يعيش بقرب أبو نواس دون أن يطالب أحدهما بسفك دم الآخر.
وفي بغداد القديمة عاش شاعر عظيم تخصص في هجاء الدولة، وظل كما كان يقول يحمل كفنه أربعين سنة دون أن يجد من يكفَّنه فيه.
وفي بغداد القديمة كان فكر المعتزلة يحاور فكر أهل السنة في جدلية صحية سليمة قبل أن تدخل السياسة ميدان الفكر فتسمَّمَ كل شيء.
وفي بغداد القديمة كان طبيب أمير المؤمنين نصرانياً، وكانت كتب الحكمة يونانية، وكانت أعظم العقول من فارس وبخارى، ولم يكن اليهود يعيشون في "جيتو" مغلق عليهم يتهددهم فيه بين الحين والآخر خطر الإبادة العنصرية". انتهى كلام القصيبي.
حسناً! ماذا عن بغداد الجديدة اليوم؟
وماذا عن بقية حواضر العالم الإسلامي؟
لا أخال أن الإجابة الحزينة تخفى على أحد، ومن هنا يجب أن نعترف بأن مجتمعاتنا العربية والإسلامية، تواجه أزمة حقيقية في "مفهوم الحِوار"، بكل ما يحمل المفهوم من أبعاد تاريخية، وفكرية، وثقافية، وحضارية، إذ أن الحوار الذي نجد له تأصيلاً عميقاً، ورائعاً، ومؤسساً في القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، صار ريشة في مهب الريح؛ وذلك بسبب "لوبي الصِدام ودعاة الكراهية" الذين يمارسون عملية إقصاء الآخرين باسم الدين تارة، و باسم العادات والتقاليد تارة أخرى، وباسم الطائفية والحزبية والشلليّة تارة ثالثة، والمحرّض دائماً هو؛ العصَّبية العمياء، والثقافة الأحادية الرأي على قياس "لا أريكم إلاّ ما أرى"، وثقافة الاستعلاء التي وصفها تعبير الشاعر العربي القديم الذي قال بفوقية ما بعدها فوقية:
"وَنَشْرَبُ إِنْ وَرَدْنَا المَاءَ صَفْـواً
وَيَشْـرَبُ غَيْرُنَا كَدِراً وَطِيْنَـا"
أو الآخر الذي قال:
وَنَحْنُ أُنَاسٌ لا تَوَسُّطَ عِنْدَنَا
لَنَا الصّدرُ دُونَ العالَمينَ أو القَبرُ".
أن الأمة التي حذرها النبي الكريم -عليه الصلاة والسلام- من العصبيّة عندما قال: "دعوها فإنها مٌنتّنة" لا زالت للأسف تعاني أشد المعاناة من عقلية المذهبية والحزبية، والعنصرية القبليّة والفئوية، ومن ثقافة أن لم تكن معي فأنت ضدي! تلك العقلية التي تؤمن باختصار بأنها الفئة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها.
وإذا كنا قد أشرنا إلى الدَّاء، فمن الضروري أن نربط ذلك ببعض أسبابه.
حسناً! يقول التعبير الإنجليزي: "الشيطان يكمن في التفاصيل" والتفاصيل ها هنا؛ هي الأنا المُتضخِمة لدي الكثير من"صُنّاع العَدَاء"، تلك الأنا الطافحة بالأنانية، والتَعصَّب، وشهوة الانتصار للنفس، بالإضافة إلى التَحَّزبات الضيقة التي نعيشها، والحشود العنصرية التي نحشدها؛ والتي ساهمت بشكل مباشر في انتشار هذا الداء القاتل.
بالإضافة إلى هذا، وذاك، هناك العامل التكويني، المتمثل في الجذور الأولى للتنشئة الأسرية والاجتماعية، والتي تلعب دوراً كبيراً في خنق ثقافة الحِوار.
فالمرء الذي لم يتعود على لغة الحِوار في المنزل، والمدرسة، والعمل، وتم إقصاؤه منذ اللحظات الأولى في حياته، وتدرج ذلك الإقصاء معه عبر مراحل حياته المختلفة لا شك، أن سيصبح شخصاً عِدائيا إقصائيا؛ فالعنف لا يولّد إلاّ عنفاً، والحِوار لا يصنع إلاّ حِواراً، وهذا الدرس الذي تعلمته البشرية طيلة حياتها.
هذه العوامل مجتمعة أو منفردة، وغيرها من العوامل التي يطول شرحها، هي من ساهمت بشكل أو بآخر، في خنق أجواء الحِوار، وخلق "ثقافة الكراهية" وبالتالي إقصاء الآخرين.
الأمر الذي يجب أن نقول معه: أن هذه الثقافة يجب أن تموت، ويحل محلها ثقافة احترام الرأي والرأي الآخر، والدفع بالتي هي أحسن، وتغليب حسن الظن في الآخرين، والتسامح والمحبة، وهي إجمالاً تُعدٌ أهم ركائز الحِوار، لبناء مجتمع، يقبل التعددية، ويحترم الآخر.