* ذاتَ يومٍ، وأثناءَ إحدَى محاضراتِي فِي الجامعةِ تفاجأتُ بأحدِ كبارِ السِّنِّ يطرقُ بابَ القاعةِ، ويستأذنُنِي بحوارٍ جانبيٍّ: حيثُ اشتكَى مِن حياةِ العزلةِ الاجتماعيَّةِ التِي يعيشُهَا ابنُهُ -الذِي هُو أحدُ طلَّابِي-؛ وقدْ جاءَ باحثًا عَن المشورةِ والعلاجِ لتلكَ المشكلةِ المزمنةِ التِي سجنت (الابنَ) رغمَ تفوُّقهِ الدِّراسيِّ!!
*****
* وعدتُ (الأبَ الحنونَ) بالجلوسِ معَ ابنهِ، وهذَا مَا حدثَ، إذْ قابلتُه مساءً فِي أحدِ الكافيهاتِ، ومِن خلالِ المكاشفةِ والمصارحةِ والثقَةِ التِي كانتْ بيننَا، وجدتُ بأنَّ العاملَ الرئيسَ فِي فقدهِ لعلاقاتِهِ، وخسارتِهِ لأصدقائِهِ الواحدَ تلو الآخرِ أنَّه لمْ يكنْ حُرًّا في رأيهِ، وحكمهِ علَى الآخرِينَ، بلْ كانتْ تديرُه أحاديثُ وعباراتُ (الوشاةِ والشائعاتِ)؛ ولأنَّه بطبعهِ عاطفيٌّ وحسَّاسٌ جدًّا كانَ يتفاعلُ معهَا سريعًا، ويُصدُّقهَا؛ فكانت النَّار التِي أحرقتْ صِلاتِهِ بمحيطهِ الخارجيِّ!!
*****
* يومهَا اكتفيتُ بأنْ أحكيَ لذاكَ الشَّابِّ الطيِّبِ قصَّةً تُنسبُ لـ(الحكيمِ والفيلسوفِ اليونانيِّ سقراط) إذْ خاطبَهُ أحدُهُم ذاتَ يومٍ بلهفةٍ شديدةٍ قائلًا: يَا سقراطُ لقدْ سمعتُ اليومَ كلامًا فِي حقِّكَ مِن أحدِ طلابِكَ، وهُنَا بادرَهُ (الحكيمُ) قبلَ أنْ تخبرنِي بمَا ذكرَهُ، أودُّ منكَ أنْ تجتازَ امتحانًا صغيرًا يُدعَى (الفلترُ الثلاثيُّ)!!
*****
* أمَّا الفلترُ الأوَّلُ: فهُو (الصدقُ)؛ فهلْ أنتَ متأكِّدٌ مِن أنَّ مَا ستخبرنِي بِهِ صحيحٌ وصادقٌ؟ أجابَ الرَّجُلُ: (لَا) لقدْ سمعتُ الخبَرَ، ولستُ متأكِّدًا منهُ، إذنْ الآنَ تعالَ إلى (الفلترِ الثَّانِي) وهُو (الطِّيبةُ) فمَا ستنقلُهُ لِي هلْ هُو أمرٌ طيِّبٌ وجيِّدٌ بالنسبةِ لِي؟ فقالَ ذلكَ الرجلُ: أيضًا (لَا)، علَى العكسِ، فهُو أمرٌ سيِّئٌ جدًّا!
*****
* تابع سقراط: إذن كنت ستحدثني بشيء سيئ، وأنت غير متأكد من وقوعه أو صحته، أصيب الرجل بالتوتر والإحراج، لكن سقراط أضافَ: لا تقلق، فما زال بإمكانك أن تنجح بالامتحان، فهناكَ (فلتر ثالث): وهو (الفائدة)، فهل كان ما تحمله من خبر سيفيدني بشيء؟! فقال الرجل: (كلا)، وهنا أكدَ (سقراط): إذا كنت ستخبرنِي بشيء سيئ، وغيرِ صحيح، ولا فائدةَ لي فيه؛ فلماذا تخبرني به من الأصل؟!
*****
* وَهنَا فِي ظلِّ انتشارِ الوشايةِ والنميمةِ والشائعاتِ في عصرِ اليومِ، ولاسيَّما معَ فوضَى مواقعِ التواصلِ الحديثةِ؛ هذهِ دعوةٌ لنجرِّبَ (تلكَ الفلاترَ الثلاثةَ)، لنقضِيَ عليهَا فِي مهدِهَا حتَّى لَا نفقدَ إنسانًا، أو وطنًا، ولكَي نعيشَ فِي طمأنينةٍ وأمانٍ فِي علاقتِنَا الاجتماعيَّةِ، وسلامَتكُم.