Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
د. سهيلة زين العابدين حماد

مؤسسة «تكوين».. تصادر الفكر العربي وتعلن وصايتها عليه!

A A
عند المطالبة بتصحيح المفاهيم الخاطئة لبعض الآيات القرآنية في خطابنا الديني وتنقيته من الأحاديث النبوية الضعيفة والمفردة والموضوعة، وتسليم بعض علماء الحديث بصحتها، لا يعني هذا تعميم كل هذه الأخطاء والتعامل مع خطابنا الديني بأكمله على أنّه خطأ، فليس كل علماء الأمة ومفكريها يقولون بإرضاع الكبير، وزواج الطفلة السمينة، ويُكفّرون من يُخالفهم الرأي؛ حتى تأتي أقلية تعلن وصايتها على الأمة بتكوين فكرها، مع أنّ فكر هذه الفئة مليء بالأخطاء، فأحد أعضاء مجلس أمناء هذه المؤسسة (الأستاذ إبراهيم عيسى) يشكك في السيرة النبوية من خلال فيديو للمؤسسة، وما ذُكر فيه منافٍ للحقيقية، للأسباب التالية:

أولًا: ممّا لا يختلف عليه اثنان أنّ القرآن الكريم المصدر الأساسي للسيرة النبوية مبيِّنة ملامحها ابتداءً من عام الفيل الذي وُلِد فيه الرسول (سورة الفيل)، ونشأته (سورة الضحى)، ونزول الوحي (اقرأ)، والدعوة سرًا (يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ)، والدعوة الجهرية (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ)، والإسراء (سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى)، مؤامرة قريش لقتل الرسول (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) والهجرة إلى يثرب المدينة (إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ ٱللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِىَ ٱثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِى ٱلْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَنَا).. وهكذا.

كما تحدّث القرآن عن المواقع التي خاضها الرسول مع مشركي مكة ويهود المدينة والأحزاب، كبدر وبنوالقينقاع وبنوالنصير وأحد والأحزاب (الخندق) وصلح الحديبية وفتح مكة والطائف وحنين، وخيبر.

فكما رأينا فإنّ السيرة النبوية وردت في آيات قليلة مجموعها خمسين آية تقريباً، وجميعها تتحدث عن حادثة بعينها دون أية تفاصيل، ولا يكتمل الحدث إلّا بالرجوع إلى كتب تفسير القرآن والسيرة النبوية لمعرفة تفاصيله.

ثانيًا: أمّا عن قول الأستاذ عيسى أنّه لم يكتب أحد من كُتّاب الوحي شيئًا في السيرة، فهذا أمر طبيعي، فهم مختصّون بكتابة الوحي، ولا شيء آخر حتى لا يختلط القرآن بما يكتبونه من غير القرآن؛ ولهذا نهى الرسول عن كتابة أحاديثه في بداية نزول الوحي حتى لا تختلط بالقرآن، وعندما تمكّن النّاس من الأسلوب القرآني سمح الرسول بكتابة الحديث.

ثالثًا: أمّا عن قوله إنّ المسلمين الأوائل عاشوا أكثر من مائة عام ولم يهتم أحد برواية سيرة النبي، فنحن لم نتكلم عن كتابة وتدوين، بل إنّ السيرة النبوية ظلت شفوية الصوت، وفي أواخر القرن الأول الهجري قيل لنا أنّ شخصيات كعروة بن الزبير ووهب بن منبه وأبان بن عثمان بن عفّان حاولوا كتابة السيرة، لكن ليس لدينا أي وثيقة تثبت ذلك، فيظل قولًا شفويًا، ونحن حتى الآن لم نجد فيها مخطوطًا مكتوباً، ثم قال عن سيرة ابن إسحاق لم تصل إلينا مخطوطة لها، وكلها شفوية.. وأقول له: لقد جانبك الصواب فيما قلته، ولو كلّفت نفسك قراءة مقدمة محقق سيرة ابن إسحاق الدكتور سهيل بن زكار، لوجدته يذكر فيها أنّه وصل إلينا مما كتبه من الذين اهتموا بالسيرة النبوية وبخلفيتها التاريخية في القرنين الأول والثاني الهجريين، منهم وهب بن منبه، ووصلتنا أجزاء من كتابات محمد بن مسلم بن شهاب الزهري في السيرة في كتاب المصنّف لعبدالرّزاق ابن همّام الصنعاني، ويُعتبر موسى بن عقبة أهم ممثلي المرحلة الثانية من مراحل كتابة السيرة، وقد وصلت إلينا قطع صغيرة من كتاب موسى بن عقبة في المغازي نُشرت سنة 1904م.

ويقول الدكتور زكّار: «حصلتُ على مصوّرة لقطعة من سيرة ابن إسحاق موجودة بالمغرب، ضممتُها إلى أوراق من قسم المغازي الموجودة بالمكتبة الظاهرية بدمشق، ثم قُمتُ بمقارنة المواد والأخبار الموجودة في هاتيْن القطعتيْن بما عند ابن هشام ممّا يقبلهما، فاتضحت لي أهمية نشرهما».. ويقول في المقدمة: وتعود القطعتان اللتان أُقدِّم لهما إلى القسم الثالث من سيرة ابن إسحاق، ولما كان هذا القسم يغطي الفترتيْن المكية والمدنية من حياة النبي، فقد كان من حسن الحظ أنّ أولى القطعتيْن تتعلق بالفترة المكية، بينما تتعلق القطعة الثانية بالفترة المدنية، وهي تروي أخبار الحوادث التي وقعت مع نهاية معركة بدر الكبرى حتى نهاية معركة أحد.

ويوجد من القطعة الأولى مخطوطتان واحدة قديمة موجودة بمكتبة القرويين بفاس، ولحقت أوراق هذه المخطوطة رطوبة شديدة أدّت إلى طمس بعضها، مما جعل قراءة المخطوط أمرًا في غاية الصعوبة، ولذلك فقد استغرق نسخ هذا المخطوط قرابة العام.. ويسترسل قائلًا: «وبعدما أنجزت عملية النسخ، وكدتُ أنجز التحقيق تمكنتُ من الحصول على مصورة لنسخة ثانية من المخطوط موجودة في الخزانة العامة في الرباط».. أمّا القطعة الثانية، فهي عبارة عن أوراق فيها جزء واحد صغير من أجزاء المغازي، كان الأستاذ ناصر الدين الألباني قد عثر عليها في المكتبة الظاهرية بدمشق، وكنت عام (1964م) قد كلّفتُ أحد النسّاخ بنسخ هذا الجزء، ففعل، ويبدو أنّ المخطوط الأصلي منه يعود إلى القرن الخامس للهجرة، وكان صاحبه طاهر بن بركات الخشوعي من رجال الحديث.

ولو كلّفت نفسك واطلعت على مقدمة محققي السيرة النبوية لابن هشام؛ لوجدت أنّهم ذكروا أنّ أبان بن عثمان بن عفّان المدني ألّف في السيرة صحفًا جمع فيها أحاديث حياة الرسول، ثمّ وهب بن مُنبِّه اليمني، وفي مدينة يدلبرج بألمانيا قطعة من كتابه الذي ألّفه في المغازي.. ولو ذهبت إلى دار الكتب المصرية لوجدت فيها 9 مخطوطات لسيرة ابن إسحاق، و22 مخطوطة لسيرة ابن هشام.

وهكذا نجد أن الأستاذ عيسى شكك من عندياته في صحة السيرة النبوية، وأكد عدم وجود أية وثيقة لما كتبه وهب بن منبه وعروة بن الزبير وأبان بن عثمان بن عفان ومحمد بن إسحاق، إلا أن ما كتبه محقق سيرة ابن إسحاق ومحققو سيرة ابن هشام في مقدمتهم ينفي مزاعم الأستاذ عيسى وأمثاله مما يتجرأون على التشكيك في سيرة أفضل الخلق، فهل أمثال هؤلاء نأتمنهم على تكوين الفكر العربي؟.

للحديث صلة

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store