Logo
صحيفة يومية تصدر عن مؤسسة المدينة للصحافة والنشر
أ.د. صالح عبدالعزيز الكريّم

يوم التروية.. «وجعلنا من الماء كل شيء حيٍّ»

A A
لا يقتصرُ الفهمُ مِن قولِهِ تعالَى: (وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ)، علَى شربِ الماءِ للإنسانِ والحيوانِ والنَّباتِ فقطْ ليُمنحُوا الحياةَ، إنَّمَا حتَّى علَى مستوَى المخلوقاتِ الدقيقةِ، والكائناتِ البسيطةِ التِي يأتِي تكوينهَا علَى المستوَى الخلويِّ، أوْ حتَّى الخلايَا المكوَّنةِ للإنسانِ والحيوانِ والنَّباتِ تحتاجُ الماءَ لتفاعلاتِهَا الداخليَّةِ، يدلُّ علَى ذلكَ نصُّ الآيةِ: «كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ» أيّ أنَّ الماءَ سببٌ فِي بقاءِ معنَى الحياةِ علَى المستوَى الدقيقِ للحياةِ، وهُو الخليةُ حيثُ يدخلُ في تفاعلاتِهَا الأساسيَّةِ؛ لذلكَ لمْ يقلْ -سبحانَهُ وتعالَى- وَخَلقنَا مِن المَاءِ، إنَّمَا «جَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ»؛ لأنَّ فِي ذلكَ ردًّا علَى مَن يزعمُ أنَّ اللهَ تعالَى خلقَ مِنَ الماءِ كلَّ شيءٍ حيٍّ، فِي حينِ خلقَ الملائكةَ مِن نورٍ، وخلقَ الجنَّ مِن نارٍ، وخلقَ آدمَ مِن صلصالٍ، فكلمةُ خلقَ تفيدُ الخلقَ مِن العدمِ، وعلَى غيرِ مثالٍ سابقٍ، وكلمةُ «جعلَ» تفيدُ التحوُّلَ والصَّيرورةَ مِن شيءٍ إلَى آخرَ.

وقدْ أوضحتُ فِي مقالٍ سابقٍ هذَا المضمونَ عَن كيفَ اللهُ -سبحانَهُ وتعالَى- «جَعَلَ» مِنَ المَاءِ كلَّ شيءٍ حَيٍّ عبرَ الحقائقِ العلميَّةِ والبيولوجيَّةِ والفيزيائيَّةِ والكيمياءِ الحيويَّةِ عن المَاءِ وعلاقتِهِ بأنشطةِ الحياةِ وتفاعلاتِها المتعدِّدةِ مِن التغذيةِإلى الإخراجِ، ومِن النموِّ إلى التكاثرِ، وكذَا وظائف الماءِ وعلاقته بالنَّباتِ.

إنَّ يومَ الترويةِ مرتبطٌ بالماءِ، وهُو اليومُ الثَّامنُ مِن شهرِ ذِي الحجَّةِ، وهُو اليومُ الذِي يذهبُ فيهِ الحجَّاجُ إلى «منى» للمبيتِ بهَا، وسُمِّي بذلكَ؛ لأنَّهم كانُوا يرتوُونَ مِن الماءِ فيهِ يُعِدُّونَه ليومِ عرفة، ويعتبرُ كذلكَ أنَّه أحدُ الأيَّامِ العشرةِ الفاضلةِ التِي أقسمَ اللهُ بهَا فِي كتابِهِ الكريمِ إِذْ قالَ: «وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ»، والعملُ فيهَا أفضلُ مِن غيرِهَا، فالاعتبارُ فِي يومِ الترويةِ للحاجِّ هُو الأخذُ بأسبابِ إعطاءِ الجسمِ حاجتَهُ مِن الماءِ شربًا في «منى» وحمله معهُ مِن ضمنِ أحمالِهِ وأمتعتِهِ، أي أنَّ هناكَ تهيئةً بأخذِ الأسبابِ؛ لتلبيةِ حاجةِ خلايَا الجسمِ مِن الماءِ؛ لمواجهةِ عدمِ جفافِ الجسمِ، وأنَّه زادٌ ضروريٌّ لعمليَّةِ الأيضِ، والتفاعلِ الكيميائيِّ داخلَ الخلايَا، وجعل أعضاءِ الجسمِ فِي وضعٍ صحيٍّ أفضلَ.

ومن أعمال البر المطلوبة، هو سقيا الماء في الحج، وهي من الأمور المهتم بها منذ زمن بعيد، وحتى قبل الإسلام، وكان يطلق عليها «السقاية»، وكان يتولاها أناس معرفون، وتقدم مجاناً لحجاج بيت الله، وقد لحق جيلنا في مكة المكرمة والمدينة المنورة سقي الماء بالمشربيات، يحملها البعض على كتفه وينادي «ماء سبيل»، أو سقي الماء بالدوارق، وقدْ تطوَّرتْ هذهِ الخدمةُ فِي العهدِ السعوديِّ الزَّاهرِ حديثًا، سواء كانت خدمةَ تقديمِ «مَاء زمزم» في الحرمَينِ الشريفَينِ، أو الماءِ العاديِّ فِي المشاعرِ المقدَّسةِ تقدُّمًا كبيرًا، وأصبحتْ مِن الخدماتِ الأساسيَّةِ التِي يجدهَا الحاجُّ فِي جميعِ المشاعرِ فِي «عرفة، ومزدلفة، ومنى»، ولم يعدْ هناك ضرورةٌ لحملِهَا معَهُ، كمَا تطوَّرتْ جميعُ الخدماتِ للحجَّاجِ، وأثبتتِ المملكةُ -بفضلِ اللهِ- جدارةً عاليةَ الجودةِ فِي إدارةِ الحشودِ، وتوفيرِ كلِّ مَا يحتاجُهُ الحجَّاجُ مِن خدماتٍ أساسيَّةٍ، وفِي مقدِّمةِ ذلكَ الأمنُ والأمانُ والطمأنينةُ؛ ليتمكَّنُوا مِن أداءِ فريضتِهِم بكلِّ يُسرٍ وسهولةٍ.

فحفظَ اللهُ مملكتَنَا الغاليةَ، وحفظَ خادمَ الحرمَينِ الشَّريفَينِ ووليَّ عهدِهِ الأمينَ، ويسَّرَ علَى الحجَّاجِ حجَّهُم، وأعادَهُم إلى أهليهِم وذويهِم سالمِينَ غانمِينَ بحجٍّ مقبولٍ، وسعيٍ مشكورٍ، وذنبٍ مغفورٍ. وكلُّ عامٍ وأنتُم بخيرٍ.

contact us
Nabd
App Store Play Store Huawei Store