تكتسبُ أهميَّةُ التعليمِ العالِي باعتبارهِ استثمارًا للمواردِ البشريَّةِ، حيثُ يُقاسُ تقدُّم الأُممِ فِي عصرنَا الحالِي بمَا تملكهُ مِن أيدٍ عاملةٍ ذات كفاءةٍ عاليةٍ، وعقولٍ مفكِّرةٍ ومبتكرةٍ قادرةٍ على تسخيرِ التدريسِ والبحثِ العلميِّ لخدمةِ المجتمعِ والتنميةِ، كمَا تُعتبرُ الجامعاتُ مراكزَ إشعاعٍ ثقافيٍّ، ومعرفيٍّ، للمجتمعِ، تتعرَّفُ من خلالِهِ علَى همومِهِ، وغمومِهِ، لمحاولةِ الإسهامِ في وضعِ الحلولِ الناجعةِ لعلاجِهَا.
وتواجهُ أنظمةُ التعليمِ العالِي فِي العالمِ أجمع تغيُّرات مُتسارِعة فِي وقتنَا الحاضرِ، خاصَّةً تلك التِي أحدثهَا الانفجارُ المعرفيُّ والتقنيُّ، والتي أسهمتْ في التغيُّراتِ التِي حدثتْ في شتَّى فروعِ المعارفِ، وأدَّت إلى بزوغِ تخصُّصاتٍ وأساليبَ جديدةٍ تتماشَى معَ عصرِ التقنيةِ؛ ممَّا يتطلَّب من أنظمةِ التعليمِ العالِي التخلِّي عَن جمودهَا، والأخذِ بقدرٍ متزايدٍ مِن المرونةِ والتنوُّعِ.
فالتعليمُ العالِي يعتبرُ مِن أهمِّ ركائزِ التقدُّمِ الاقتصاديِّ، والاجتماعيِّ، والعلميِّ، وتحقيق الرفاهيَّةِ، والرخاءِ للمجتمعِ الذِي يخدمهُ، ويعتبرُ بمثابةِ مؤسسةٍ إنتاجيَّةٍ، يمكنهَا إمدادُ المجتمعِ بالقوَى البشريَّة المدرَّبة، والعقولِ المفكِّرةِ، والقياداتِ القادرةِ علَى تحمُّلِ المسؤوليَّةِ، واتِّخاذ القرارِ.
كما يُعدُّ المدخلُ الأساسُ للبحثِ العلميِّ المنتجِ، الذِي يستهدفُ خدمةَ المجتمعِ والارتقاءَ بهِ علميًّا وحضاريًّا، كيفَ لَا؟، وهُو مركزٌ لنقلِ ونشرِ المعرفةِ، وصناعتهَا مِن خلالِ أفكارِ كوادرهِ الأكاديميَّةِ المتميِّزةِ.
إنَّه الطريقُ الأولُ للتنميةِ والتقدُّم ورفعِ مستوَى معيشةِ الفردِ، ومِن ثمَّ لابُدَّ مِن الاهتمامِ بهِ؛ لأنَّه الرصيدُ الإستراتيجيُّ الذِي يمدُّ المجتمعَ -كمَا فِي المحتوَى- بكافَّةِ احتياجاتِهِ مِن الكوادرِ البشريَّةِ المتخصِّصةِ والمؤهَّلةِ تأهيلًا عاليًا.
إن أهمية التعليم مسألة لم تعد محل جدل أو نقاش، فالتجارب الدولية المعاصرة أثبتت -بما لا يدع مجالا للشك- أن بداية التقدم الحقيقية للدول هي التعليم، وأن الدول التي تقدمت كان تقدمها من بوابة التعليم، بل إن الدول المتقدمة نفسها أصبحت تضع التعليم في أولوية برامجها وسياساتها.
إنَّ جوهرَ الصراعِ وحقيقةَ التنافسِ الذِي يجرِي حاليًّا بينَ الدولِ هُو تنافسٌ تعليميٌّ. وقدْ أجمعَ المحلِّلُون على أنَّ التعليمَ هُو المخرجُ الطبيعيُّ والأساسُ للدولِ الناميةِ؛ لأنَّهُ السبيلُ الوحيدُ للخروجِ مِن التخلُّفِ والانطلاقِ إلى التنميةِ الشاملةِ.
والنماذجُ كثيرةٌ ومتنوِّعةٌ، والتجاربُ التي خاضتهَا العديدُ من الدولِ مثل كوريا، وسنغافورا، وماليزيا، وهونغ كونغ، واليابان، من الجانبِ الآسيويِّ، وهناكَ فلندا، وهولندا، وإيرلندا، في الجانبِ الأوروبيِّ، وكندا والبرازيل في أمريكا، جميعها تؤكِّدُ إيمانَ هذهِ الدولِ بقوَّةِ تأثيرِ التعليمِ، فانطلقتْ تتنافسُ، وتبني مجدهَا، ونهضتهَا بتطويرِ التعليمِ، ومنحه الأولويَّةَ القصوَى، فارتقتْ وتسيَّدت المشهدَ الدوليَّ.
إنَّ التعليمَ العالِي المطلوبَ لهذَا القرنِ هُو تعليمٌ شاملٌ، وتخصصيٌّ فِي الوقتِ نفسهِ، ولقدْ نجحت العديدُ من دولِ العالمِ فِي ربطِ التعليمِ العالِي بمتطلَّباتِ التنميةِ، فلمْ تعدْ قوَّة الأُممِ تُقاسُ بمساحةِ أراضيهَا، أو بمَا تملكهُ مِن جيوشٍ ومعدَّاتٍ عسكريَّةٍ، أو بعددِ سكَّانهَا، أو بما تملكهُ من ثرواتٍ طبيعيَّةٍ، ولكنَّها أصبحتْ قوَّتهَا اليوم تُقاسُ بمَا تملكهُ من معرفةٍ متطوِّرةٍ، وثقافةٍ متقدِّمةٍ، وثروةٍ بشريَّةٍ قادرةٍ على الاكتشافِ والإبداعِ.