أنْ تغفرَ، يعنِي أنْ تتوقَّفَ عَن المُطالبةِ بأيَّةِ حقوقٍ معنويَّةٍ أو مادِّيَّةٍ مِن طرفٍ آخَرَ، وتمنحَهُ العفوَ مِن دونِ مُقابلٍ، معَ التخلِّي عَن مشاعرِ الغضبِ وحُبِّ الانتقامِ؛ أو طلبِ العُقوبةِ ضدَّ مَن أساءَ إليكَ. وبهذَا يتبيَّنُ مدَى القوَّةِ النَّفسيَّةِ التِي تتطلَّبهَا هذهِ الفضيلةُ، وهِي فِي أصلِهَا وأكملِ صُورِهَا، رجاءٌ أصيلٌ للعبادِ مِن ربِّهم، وعَلاقةٌ حصريَّةٌ مِن جانبِ اللهِ -عزَّ وجلَّ-، لفائدةِ عبادِهِ المُذنبِينَ المُقصِّرينَ فِي حقِّهِ سُبحانَهُ.
وليسَ كلُّ إنسانٍ قادرًا علَى احتمالِ مَا يتطلَّبُهُ غُفرانُ الإساءةِ فِي حقِّهِ، مِن مُرونةٍ نفسيَّةٍ وشَجاعةٍ أدبيَّةٍ ورقيٍّ أخلاقيٍّ، وتنازلٍ عَن أيِّ تعويضٍ، ولوْ أنَّ مِن المُتوقَّعِ تشوُّفَ النَّفسِ إلى أيِّ إشارةٍ تدلُّ علَى ندمِ المُسيءِ، أو صورةٍ تُفيدُ بإقرارِهِ بالخطأِ، قبلَ أنْ يُبادرَ المُتضرِّرُ بالتجاوزِ عَن الإساءةِ والتَّنازلِ عَن العِقابِ، وإسقاطِ اللَّومِ والعِتابِ.
أمَّا أنَا، فقدْ تمكَّنتُ مؤخَّرًا مِن الغُفرانِ، والتَّصالحِ معَ النَّفسِ، ونبذِ الكراهيَّةِ والرَّغبةِ فِي الانتقامِ، واعتزالِ مَن يؤذينِي.. لقدْ شعرتُ بالفخرِ والتحرُّرِ ونشوةِ الإنجازِ.. لكنَّنِي أيضًا، عانيتُ تكرارًا مِن نوباتِ حُزنٍ شديدٍ كلَّمَا تذكَّرتُ مَا تحمَّلتُهُ ومررْتُ بهِ مِن مُعاناةٍ وخُذلانٍ، فبهجةُ المُسامَحةِ لمْ تكُنْ خاليةً مِن ضريبةٍ باهظةٍ، لكنَّنِي تجاوزتُ وعَفوتُ.. لقدْ نجوتُ -والحمدُ للهِ-. يقولُ الشَّاعرُ الفيلسوفُ «جُبران خليل جُبران»: (كُلَّمَا نَضَجْتَ، زَادَتْ قُدْرتُكَ علَى المَغْفِرةِ، وَزَادَ يَقينُكَ بَأنَّ أخطاءَ الآخرِينَ لَا تَعْنِي بِالضَّرورةِ أنَّهم سيِّئُونَ).
والغُفرانُ، وإنْ كانَ خُلُقًا رفيعًا يأتِي فِي مرتبةٍ أعلَى مِن كظْمِ الغيظِ، وصِنوًا للعفوِ وتركِ التَّأنيبِ، وسببًا لانشراحِ الصَّدرِ والتخلُّصِ من شوائبِ الحِقدِ والغلِّ، إلَّا أنَّهُ لَا يَعنِي الاعتيادَ علَى ارتضاءِ الإساءةِ، أو عدمِ ردِّ الاعتبارِ، ولَا يُجوِّزُ التنازُلَ دومًا عَن الحُقوقِ المَكفولةِ شرعًا وقانونًا، فالنُّفوسُ تتفاضَلُ، والقلوبُ ليستْ جميعُهَا تقوَى علَى احتمالِ الخَدْشِ والضَّررِ. يلفتُ الأديبُ الرُّوسيُّ العالميُّ «دوستويفسكي» إلى فائدةٍ رقيقةٍ بخصوصِ الغُفرانِ في قولِهِ: (فلنغفِرْ، فلنغفِرْ قَبلَ كلَّ شيءٍ، فلنغفِرْ للجميعِ، ولنغفِرٍْ دائمًا، ولنَأملْ أنْ يغفرَ لنَا الآخرُونَ أيضًا، نعمْ، لأنَّ كلَّ واحدٍ مِنَّا مُذنبٌ فِي حقِّ الآخرِينَ، الجَميعُ مُذنبُونَ).